يعرف المواطن الأميركي عن ظهر قلب تأثير ارتفاع سعر النفط على كل ما يمس تكلفة معيشته ورفاهيته، ولذلك فهو يتابع بصورة يومية سعر الوقود في محطات تموين السيارات، كونها تتغير مع كل تغير يحدث في سعر البرميل عالمياً، الأمر الذي قد يدفعه لإلغاء شراء منتج معين، أو تأجيل رحلة كان ينوي القيام بها في أقرب عطلة، عند ارتفاع سعر الوقود، ويحدث العكس حال انخفاضه.
ويحفظ كل مواطن أميركي الدرس الذي علمته إياه الحكومات المتعاقبة هناك، فالمملكة العربية السعودية، وإلى حدٍ ما منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، هي التي تتحكم بسعر النفط، وبالتالي فإنها تتحكم بالدخل الحقيقي للمواطن الأميركي، ومن ثم بمستوى معيشته ورفاهيته، هو وأولاده.
ونتيجة لذلك، سعى رؤساء الولايات المتحدة، بداية من ريتشارد نيكسون، إلى تطوير وتنفيذ سياسة شاملة للطاقة، لكن كان ذلك من دون جدوى. واعتمدت البلاد بشكل كبير على واردات النفط الأجنبية منذ أوائل السبعينيات، وكان درس الحظر النفطي العربي وقت حرب أكتوبر 1973 من أقسى الدروس على الولايات المتحدة، حتى أن هنري كيسنجر وصفه في مذكراته بأنه "أسوأ أزمة في العالم الحر منذ الحرب العالمية الثانية".
اقــرأ أيضاً
وخلال نصف القرن الأخير، شكلت الاحتياجات الأميركية للطاقة، ولا سيما النفط، سياسة الولايات المتحدة الخارجية وعلاقتها مع البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم.
وتسببت سيطرة الدول الخليجية، قليلة الشعبية في الولايات المتحدة، على مقدرات النفط في العالم في اضطرار الأخيرة إلى الحفاظ على تواجد عسكري في المنطقة لحماية ما يصفونه بـ "مصالحهم في الموارد النفطية"، وهو ما أدى إلى وقوع العشرات، وربما المئات، من الضحايا الأميركيين على مدار تلك السنوات.
وبخلاف سقوط الضحايا، أشارت بعض التقديرات في العام 2012 إلى أن استيراد النفط كلف الولايات المتحدة ما يقرب من مليار دولار يومياً، وهو ما كان له تأثيرات سلبية بالغة على الاقتصاد الأميركي، من حيث تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد وتدمير ميزان المدفوعات.
اقــرأ أيضاً
ولا تتوقف مراكز الأبحاث عن إصدار التقارير والدراسات التي تتحدث عما كان يمكن إضافته من استثمارات في مشروعات تدر عوائد ضخمة لو لم يتم توجيه كل تلك الأموال لمصدري النفط. وتعتبر فئة كبيرة من الشعب والادارة الأميركيين أن أغلب تلك الدول يحمل الكثير من العداء للولايات المتحدة.
وبعد الأزمة المالية العالمية في 2008، استغلت الشركات الأميركية انخفاض تكلفة الاقتراض، وضاعفت من استثماراتها في القطاع النفطي في الولايات المتحدة. وقدرت القروض التي حصلت عليها الشركات الأميركية العاملة في هذا القطاع بما يقرب من 550 ملياراً من الدولارات، وأمكن بالفعل إنتاج كميات كبيرة من النفط الصخري.
لكن ارتفاع تكلفة إنتاج ذلك النوع من النفط، مع انخفاض أسعار بيعه خلال السنوات الخمس الأخيرة، لم يسمحا باستمرار الزيادة في إنتاجه، وهو ما أدى إلى انهيار العشرات من تلك الشركات وخروجها من السوق، لكن جهود الشركات الأميركية لم تتوقف.
وقبل أسبوع، نشرت وكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية تقريراً أوضحت فيه أن الإنتاج الأميركي من النفط شهد مؤخراً العديد من الطفرات، حتى أصبحت الولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط في العالم، متخطية بذلك كلا من روسيا والسعودية، بعد أن نما الإنتاج الأميركي بأسرع معدل له فيما يقرب من قرنٍ من الزمان.
وأشار التقرير، الذي جاء تحت عنوان "تكساس على وشك أن تصبح أسوأ كابوس لأوبك"، إلى أن الشركات الأميركية العاملة في إنتاج النفط في الولايات المتحدة حفرت في ولاية تكساس 114 ألف بئر خلال السنوات العشر الأخيرة، وأنها استطاعت أخيراً إيجاد وسائل للتغلب على مشكلات خطوط الأنابيب فيها، الأمر الذي سيمكنها من إنتاج النفط والتربح حتى عند سعر 30 دولارا للبرميل.
وتوقع بعض المحللين تخفيض الولايات المتحدة لوارداتها من النفط بصورة كبيرة، أو الاستغناء عن استيراده تماماً، بحلول العام 2020.
وعلى الجانب الآخر، تسببت زيادة الإنتاج الأميركي في الحد من قدرة السعودية على التأثير في الأسعار عن طريق تخفيض الانتاج، كما ذهبت تسريبات اتخاذ قرارات بتخفيض الانتاج في اجتماعات أوبك القادمة خلال الأسبوع الأول من ديسمبر / كانون الثاني المقبل أدراج الرياح، الأمر الذي تسبب في فقدان المعدن الخام ما يقرب من ثلث سعره خلال الشهرين الأخيرين.
الحقائق السابقة تؤكد أن خريطة صناعة النفط تتغير، وبعد أن كانت تشمل أوبك وغير أوبك، أصبح الموضوع مرتبطاً بالأساس بـ "الثلاثة الكبار".
اقــرأ أيضاً
وفي الوقت الذي تضطر فيه السعودية لتخفيض إنتاجها لتجنب انهيار الأسعار، تبدو الولايات المتحدة عازمة وقادرة على تعويض ليس فقط انخفاض الإنتاج السعودي، وإنما أيضاً غياب النفط الإيراني وربما الفنزويلي.
وفي حين تستطيع الشركات الأميركية زيادة الإنتاج وتحقيق الأرباح عند مستوى 30 دولاراً للبرميل (وفقاً لبلومبيرغ)، تحتاج السعودية إلى سعر 85 - 87 دولاراً للبرميل من أجل ضبط موازنتها هذا العام (وفقاً لصندوق النقد الدولي).
من الواضح إذاً أن الكابوس ليس بعيداً عن السعودية، خاصة مع انخفاض قدرتها على المناورة والضغط لمنع استمرار انخفاض سعر النفط.
ومع تطورات جريمة قتل خاشقجي، واستمرار تضييق الخناق على ولي العهد، محمد بن سلمان، باعتباره ضالعاً في إعطاء أمر القتل، يُستبعد تماماً اتخاذ المملكة مواقف متشددة في هذه الحرب النفطية، الأمر الذي ينذر بتزايد العجز في موازنتها العامة، واضطرارها إلى اقتراض المزيد من الأموال أو السحب من احتياطياتها، خاصة مع عزوف الكثير من الاستثمارات الأجنبية عن التوجه إلى الرياض على خلفية الجريمة البشعة وتورط النظام السعودي فيها.
الخرائط الاقتصادية تتغير في المنطقة، ومن الطبيعي أن تتبعها الخرائط السياسية ومناطق النفوذ والتحالفات، وهو ما ينذر بصعوبات يواجهها ملك السعودية القادم، أياً كان اسمه.
ويحفظ كل مواطن أميركي الدرس الذي علمته إياه الحكومات المتعاقبة هناك، فالمملكة العربية السعودية، وإلى حدٍ ما منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، هي التي تتحكم بسعر النفط، وبالتالي فإنها تتحكم بالدخل الحقيقي للمواطن الأميركي، ومن ثم بمستوى معيشته ورفاهيته، هو وأولاده.
ونتيجة لذلك، سعى رؤساء الولايات المتحدة، بداية من ريتشارد نيكسون، إلى تطوير وتنفيذ سياسة شاملة للطاقة، لكن كان ذلك من دون جدوى. واعتمدت البلاد بشكل كبير على واردات النفط الأجنبية منذ أوائل السبعينيات، وكان درس الحظر النفطي العربي وقت حرب أكتوبر 1973 من أقسى الدروس على الولايات المتحدة، حتى أن هنري كيسنجر وصفه في مذكراته بأنه "أسوأ أزمة في العالم الحر منذ الحرب العالمية الثانية".
وخلال نصف القرن الأخير، شكلت الاحتياجات الأميركية للطاقة، ولا سيما النفط، سياسة الولايات المتحدة الخارجية وعلاقتها مع البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم.
وتسببت سيطرة الدول الخليجية، قليلة الشعبية في الولايات المتحدة، على مقدرات النفط في العالم في اضطرار الأخيرة إلى الحفاظ على تواجد عسكري في المنطقة لحماية ما يصفونه بـ "مصالحهم في الموارد النفطية"، وهو ما أدى إلى وقوع العشرات، وربما المئات، من الضحايا الأميركيين على مدار تلك السنوات.
وبخلاف سقوط الضحايا، أشارت بعض التقديرات في العام 2012 إلى أن استيراد النفط كلف الولايات المتحدة ما يقرب من مليار دولار يومياً، وهو ما كان له تأثيرات سلبية بالغة على الاقتصاد الأميركي، من حيث تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد وتدمير ميزان المدفوعات.
ولا تتوقف مراكز الأبحاث عن إصدار التقارير والدراسات التي تتحدث عما كان يمكن إضافته من استثمارات في مشروعات تدر عوائد ضخمة لو لم يتم توجيه كل تلك الأموال لمصدري النفط. وتعتبر فئة كبيرة من الشعب والادارة الأميركيين أن أغلب تلك الدول يحمل الكثير من العداء للولايات المتحدة.
وبعد الأزمة المالية العالمية في 2008، استغلت الشركات الأميركية انخفاض تكلفة الاقتراض، وضاعفت من استثماراتها في القطاع النفطي في الولايات المتحدة. وقدرت القروض التي حصلت عليها الشركات الأميركية العاملة في هذا القطاع بما يقرب من 550 ملياراً من الدولارات، وأمكن بالفعل إنتاج كميات كبيرة من النفط الصخري.
لكن ارتفاع تكلفة إنتاج ذلك النوع من النفط، مع انخفاض أسعار بيعه خلال السنوات الخمس الأخيرة، لم يسمحا باستمرار الزيادة في إنتاجه، وهو ما أدى إلى انهيار العشرات من تلك الشركات وخروجها من السوق، لكن جهود الشركات الأميركية لم تتوقف.
وقبل أسبوع، نشرت وكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية تقريراً أوضحت فيه أن الإنتاج الأميركي من النفط شهد مؤخراً العديد من الطفرات، حتى أصبحت الولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط في العالم، متخطية بذلك كلا من روسيا والسعودية، بعد أن نما الإنتاج الأميركي بأسرع معدل له فيما يقرب من قرنٍ من الزمان.
وأشار التقرير، الذي جاء تحت عنوان "تكساس على وشك أن تصبح أسوأ كابوس لأوبك"، إلى أن الشركات الأميركية العاملة في إنتاج النفط في الولايات المتحدة حفرت في ولاية تكساس 114 ألف بئر خلال السنوات العشر الأخيرة، وأنها استطاعت أخيراً إيجاد وسائل للتغلب على مشكلات خطوط الأنابيب فيها، الأمر الذي سيمكنها من إنتاج النفط والتربح حتى عند سعر 30 دولارا للبرميل.
وتوقع بعض المحللين تخفيض الولايات المتحدة لوارداتها من النفط بصورة كبيرة، أو الاستغناء عن استيراده تماماً، بحلول العام 2020.
وعلى الجانب الآخر، تسببت زيادة الإنتاج الأميركي في الحد من قدرة السعودية على التأثير في الأسعار عن طريق تخفيض الانتاج، كما ذهبت تسريبات اتخاذ قرارات بتخفيض الانتاج في اجتماعات أوبك القادمة خلال الأسبوع الأول من ديسمبر / كانون الثاني المقبل أدراج الرياح، الأمر الذي تسبب في فقدان المعدن الخام ما يقرب من ثلث سعره خلال الشهرين الأخيرين.
الحقائق السابقة تؤكد أن خريطة صناعة النفط تتغير، وبعد أن كانت تشمل أوبك وغير أوبك، أصبح الموضوع مرتبطاً بالأساس بـ "الثلاثة الكبار".
وفي الوقت الذي تضطر فيه السعودية لتخفيض إنتاجها لتجنب انهيار الأسعار، تبدو الولايات المتحدة عازمة وقادرة على تعويض ليس فقط انخفاض الإنتاج السعودي، وإنما أيضاً غياب النفط الإيراني وربما الفنزويلي.
وفي حين تستطيع الشركات الأميركية زيادة الإنتاج وتحقيق الأرباح عند مستوى 30 دولاراً للبرميل (وفقاً لبلومبيرغ)، تحتاج السعودية إلى سعر 85 - 87 دولاراً للبرميل من أجل ضبط موازنتها هذا العام (وفقاً لصندوق النقد الدولي).
من الواضح إذاً أن الكابوس ليس بعيداً عن السعودية، خاصة مع انخفاض قدرتها على المناورة والضغط لمنع استمرار انخفاض سعر النفط.
ومع تطورات جريمة قتل خاشقجي، واستمرار تضييق الخناق على ولي العهد، محمد بن سلمان، باعتباره ضالعاً في إعطاء أمر القتل، يُستبعد تماماً اتخاذ المملكة مواقف متشددة في هذه الحرب النفطية، الأمر الذي ينذر بتزايد العجز في موازنتها العامة، واضطرارها إلى اقتراض المزيد من الأموال أو السحب من احتياطياتها، خاصة مع عزوف الكثير من الاستثمارات الأجنبية عن التوجه إلى الرياض على خلفية الجريمة البشعة وتورط النظام السعودي فيها.
الخرائط الاقتصادية تتغير في المنطقة، ومن الطبيعي أن تتبعها الخرائط السياسية ومناطق النفوذ والتحالفات، وهو ما ينذر بصعوبات يواجهها ملك السعودية القادم، أياً كان اسمه.