ويرجح بعض المراقبين أن النزاع حول المورد الناضب يعد إحدى أبرز نقاط الخلاف بين السودان وجنوبه، لكونه يقع متاخما للحدود الممتدة بينهما.
ورغم تسوية الخلاف بين البلدين بانفصال شطره الجنوبي عن الشمالي إلا أنهما لم يسلما من تبعات ذلك الخيار، حيث ظل ملف النفط حاضرا، رغم الوساطات الإقليمية والدولية التي يري البعض أن هناك أطرافا لها مصلحة مباشرة في عدم استقرار البلد الغني بالنفط، والذي وفقا لإحصاءات حكومية محلية فإنه يمتلك مخزونا يقدر بحوالي 24.5 مليار برميل نفط.
النفط السوداني المكتشف والمصدر في تسعينيات القرن الماضي لم يظن القائمون على إدارة شؤونه أن يتحول يوما ما إلى نقمة تجلب معها كل الأزمات التي لا تزال تضرب بأطنابها الجوانب الاقتصادية، وتوصِل البلدين حينها إلى قسمة عائداته بين الحكومة والجنوب، على أن تمنح المناطق المنتجة 2%.
ورغم المجهود المبذول بعد انفصال الجنوب عن قيادتي البلدين، إلا أن ظهور الانشقاقات بدولة جنوب السودان وتبادل الاتهامات بين جوبا والخرطوم بإيواء كل منهما للمنشقين عن النظام الحاكم في البلدين زادا من التوتر على المناطق المنتجة للنفط، ما أدى تارة إلى توقف الإنتاج بتلك الحقول، ودفع الخرطوم إلى الرد بإغلاق الخط الناقل للنفط الجنوبي عقب اعتداءات قامت بها دولة الجنوب على أهم وأكبر الحقول المنتجة في منطقة هجليج الحدودية الغنية بالنفط.
وجاءت تلك التطورات لتنسف وقتها، عام 2012، كل الجهود التي بذلت من قيادتي البلدين عبر مفاوضات استمرت 5 أيام برعاية الوسيط الأفريقي ثامبو امبيكي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
تلك الأحداث ألقت بظلال سلبية على المشهد السوداني حيث ظلت الخرطوم متمسكة برأيها بأن الجنوب خرق الاتفاق السابق، وفي الوقت ذاته عاودت جوبا البحث عن ممر آمن لنفطها عبر دول أفريقية ساعدتها للتحول عن قبضة الخرطوم، ما يشير إلى حرص تلك الدول على تحقيق منافع لها تؤكد فرضية مساهمتها في تأزيم الصراع في البلد الواحد أدى لانفصال دولة الجنوب بسبب النفط.
فما بين تعنت الخرطوم واتجاه جوبا الأفريقي استحكمت حلقة الأزمة الاقتصادية، وأثرت على الحياة بصورة واضحة للعيان في وقت اشتدت حلقات المعارضة الجنوبية على جوبا التي ترى في الخرطوم حليفا لها.
كما زاد الخناق الاقتصادي على الخرطوم، التي هي أيضا لم تجد مخرجا منه إلا بالعودة إلى طاولة الحوار مع دولة الجنوب الذي فشل مرارا في تحقيق حلمه الأفريقي بسبب اشتداد وطأة المعارضة والأزمة الاقتصادية.
ورأت الخرطوم التي ضيعت فرصها إبان استخراج النفط دون توجيه عوائده بصورة صحيحة أنها فقدت حوالي 70% بالمائة من الموارد و50% من ميزانيتها العامة في وقت عانت من حصار خارجي أفقدها ثقة المؤسسات المانحة، الأمر الذي أدى إلى تدهور قيمة الجنيه وارتفاع الأسعار بصورة كبيرة لأول مرة منذ استقلال هذا البلد الأفريقي.
العودة إلى المربع الأول
هكذا ظل ملف النفط بين شطري السودان الأكثر تأثيرا على مجريات الأحداث بين جوبا والخرطوم اللتين تتساويان في اعتمادهما بصورة أساسية على موارده، ما أثر بصورة مباشرة على إنهاك اقتصادهما بسبب الحروب.
ويتفق كثيرون على أن الجنوب قد خسر رهان الحرب وخسر صادرات النفط التي تمثل حوالي 99% من دخله لأنه لا يملك البديل، فيما الشمال يمتلك خيارات كثيرة ولكنه لم يوظفها بالطريقة المثلى، ولذلك فإن خسارة أكثر من 470 ألف برميل نفط للجنوب يوميا منذ يناير/كانون الثاني عام 2012 ليس بالأمر السهل، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي السيئ لاقتصاد البلدين.
وبعد يناير/كانون الثاني 2012، عاش كل من الخرطوم وجوبا في حرب كلامية، لم تنفع معها محاولات المجتمع الدولي للضغط على البلدين للتوصل إلى اتفاق نهائي ينهي خلافات ما بعد الانفصال حينما أعلنت دولة جنوب السودان إيقاف إنتاج نفطها الذي يتم تصديره عبر السودان، ثم جاء احتلال منطقة هجليج "المنتجة للنفط" من قبل دولة الجنوب في إبريل/نيسان من العام 2012 ليزيد من الأوضاع التهابا، حيث أعلنت الخرطوم حالة الطوارئ وإغلاق الحدود بين البلدين وتمشيط الجيش على طول الحدود.
وفي سبتمبر/أيلول من العام 2012، وبعد مفاوضات ماراثونية في أديس أبابا وقع السودان وجنوب السودان على اتفاقيات لتأمين حدودهما وتعزيز التجارة، في خطوة وصفها مراقبون بأنها تساعد على استئناف تصدير نفط الجنوب رغم إخفاقها في حل الصراعات الأخرى العالقة في ما يتعلق بمنطقة ابيي المتنازع عليها بين البلدين حينما رفضت الخرطوم اقتراح الاتحاد الأفريقي حول المنطقة.
ووقع الرئيس السوداني ونظيره سلفا كير "اتفاق تعاون" بعد قمة رئاسية استمرت 5 أيام في أديس أبابا، يسمح لجنوب السودان باستئناف صادرات النفط عبر ميناء بورتسودان، بعد خلافات حول رسوم التصدير، والترتيبات الأمنية.
وفي الثامن من يونيو/حزيران 2013، أعلن البشير إيقاف ضخ نفط الجنوب عبر الأراضي السودانية باعتبار أن جوبا لم تف بالاتفاقيات الموقعة استنادا إلى الهجوم الذي شنته جوبا على حقل هجليج الذي يحتوي على 57 بئراً نفطية في جنوب كردفان.
ومنذ ذلك التاريخ، لم يحرز الإنتاج أي تقدم، ما اضطر الحكومة السودانية إلى استيراد الخام من الخارج، خصوصا أن استهلاك السودان من النفط الخام في حدود 110 آلاف طن سنوياً، بحسب التقديرات الرسمية.
مشروع لابسيت
دفع قرار الخرطوم دولة الجنوب للبحث عن حلول للخروج من الأزمة، فالخرطوم لم تحصل على مقابل دولي بعدما نفذت اتفاقيات نيفاشا التي قادت لانفصال الجنوب، بل واصلت الدول الغربية الضغط عليها بقضايا أخرى.
تمثل المخرج الجنوبي من عباءة الخرطوم في سيناريو إقليمي شارك فيه عدد من دول المنطقة عبر مشروع (لابسيت)، الذي يتضمن إقامة ممر تجاري يربط جنوب السودان، بإثيوبيا وكينيا عبر خط سكة حديد وطريق بري بجانب خط أنابيب لنقل نفط جنوب السودان.
وتمّ وضع الأساس للمشروع في ميناء لامو الكيني، بحضور الرئيسين الجنوبي سلفاكير والكيني مواي كيباكي ورئيس وزراء إثيوبيا الراحل مليس زيناوي.
يقول الخبير الجنوبي استفن لوال لـ"العربي الجديد" إن دولة الجنوب لم تكتف بهذا الخيار فقط، وإنما بحثت عن خيارات أخرى متعدّدة للبحث عن وسيلة لتصدير نفطها حيث وقعت اتفاقية مع شركة ألمانية لإعداد دراسة جدوى لإقامة خط أنابيب لنقل نفطها من مناطق الإنتاج إلى ميناء لامو الكيني وآخر عبر إثيوبيا لميناء جيبوتي.
ويضيف استفن أن كينيا هي الدولة المستفيدة الأولى من الصراع السوداني ــ الجنوبي، فهي مثلما احتضنت مفاوضات السلام وحققت اتفاقيّة "نيفاشا" التي قادت لقيام دولة الجنوب، فها هي تبدأ البحث عن مصالح اقتصادية في الجنوب عبر إغرائه بقبول ميناء لامو الكيني الذي أنشئ أساساً ليكون بديلاً جنوبيّاً لموانئ شمال السودان.
ويشير الخبير الجنوبي إلى أن وفودا كينية بدأت تصل إلى جوبا بانتظام، لهدف واحد وهو إطلاع الجانب الجنوبي على ما تمّ من تحضيرات وترتيبات لإنشاء الميناء الكيني الذي يتمّ في إطار مشروع (لابسيت) الممول دوليّاً، مؤكدا أن الكينيين حريصون على أن تكون بلادهم بديلاً تجاريّاً للجنوب والدول المجاورة، وأن يكون "لامو" منصّة لتصدير نفط جنوب السودان إلى العالم. ولذلك، بدأت كينيا بتمويل من البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي في تنفيذ البنيات الأساسية للميناء، حتى يكون جاهزاً لاستقبال النفط الجنوبي.
البحث عن حوافز
يقول الخبير الاقتصادي عصام عبد الوهاب بوب لـ"العربي الجديد"، إن ما يجمعنا بالجنوب كدولة وشعب أكثر مما يجمع بينها وكينيا أو أوغندا أو إثيوبيا، فهذه الدول تبحث عن حوافز لدورها في نيفاشا التي قسمت السودان، فكينيا وإثيوبيا تملكان موارد اقتصادية كبيرة وجدتا في الصراع السوداني الجنوبي فرصة للاستفادة الاقتصادية عبر مشروع (لابسيت) الذي سيكون وبالاً على السودان.
ويضيف بوب أن الأزمة بدأت منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل التي اشتملت على عدد من الثغرات، والتي أدت إلى تقسيم عائدات النفط، مبينًا أن النزاع بين الشمال والجنوب لا يمكن فيه توجيه النقد واللوم لطرف واحد فقط، مؤكدًا أن الطرفين على خطأ، وإذا حدثت خسارة فستكون من نصيب الطرفين.
ولفت بوب إلى أن "نقل بترول الجنوب عبر ميناء بورتسودان هو أمر منطقي واقتصادي وأن أي حل غير ذلك بالتأكيد لن يكون في مصلحة دولة الجنوب، لأن نقله عبر خطوط جديدة لن تقل تكلفته عن 3 إلى 4 مليارات دولار، مبينًا أن التكلفة يمكن أن يستفيد منها الجنوب في التنمية الاقتصادية بدلاً من استخدامها لإقامة أنابيب بديلة، تستغرق ما لا يقل عن 3 سنوات للانتهاء منها.
صفقة جديدة
ومرة أخرى، عادت جوبا إلى البديل الأسهل والمتاح أمامها وفي ظل أوضاع اقتصادية وسياسية صعبة تمر بها وهو نقل النفط عبر ميناء بورتسودان، لكن الخرطوم ردت برهن تنفيذ اتفاق عبور نفط جوبا عبر بلادها بالتوصل إلى تفاهمات بشأن الترتيبات الأمنية، وأكدت أنها لن تنفذ الاتفاقيات على أرض الواقع إلا بتطبيق كافة الاتفاقيات الموقعة في أديس أبابا.
ويقول المحلل السياسي أحمد يونس لـ"العربي الجديد"، إن إصرار الخرطوم على صفقة كهذه مع جوبا تسنده حقيقة أن الهجمات العسكرية التي ظل يستهدف بها قطاع الشمال مناطق عديدة بولاية جنوب كردفان (غرب) لم تكن لتحدث إذا كانت الدولتان قد توصلتا إلى تكوين آليات سريعة لتنفيذ البروتوكول الأمني الذي يشترط على جيوش الدولتين الانسحاب لمسافة عشرة كيلومترات جنوب مواقع تمركزها.
ويضيف: "كان يمكن لجوبا في المقابل إغلاق ملف معارضيها السياسيين والعسكريين إذا سلمتها الخرطوم من ظلت تبحث عنهم، وهذا سيحتم على حكومتي البلدين اللجوء إلى الخيارات البراغماتية الصعبة، وتحمل الضغوط الشعبية التي قد ينتجها تسليم من يعتبرهم البلدان متمردين عليهما".
الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز الفكي، يقول إن "اتفاقيات البلدين كان يمكن أن تشمل إطارا يتم بموجبه عدم التعرض لضخ البترول أو التعرض لخط الأنابيب، هذا إذا تمكنت جوبا من السيطرة على الأوضاع في جنوب السودان وليس هناك ما يمنع توقيع اتفاق يتضمن المصالح المشتركة بين البلدين في ما يتعلق بالبترول وتمرير المنتج منه في الجنوب".
ويرى الفكي أن النفط والصراع الذي نشأ حوله، يفسران الكثير من معادلات الصراع والحروب والانتشار العسكري والسياسي لضمان سلامة المنابع، إضافة إلى المشاكل بين دول المنطقة حول خطوط النقل.