واكبت الأمم المتحدة قضية فلسطين منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وكان دورها، ولا يزال، مهماً في بلورة والتأثير على مجريات هذه القضية سلباً وإيجاباً. وتحيي الجمعية العامة هذه السنة ذكرى مرور خمسة وسبعين عاماً على نكبة فلسطين، ويُنتظر أن يلقي الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، خطاباً أمامها بهذه المناسبة.
البدايات: قرار التقسيم واللاجئون وأونروا
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت قرار تقسيم فلسطين، القرار 181 (II)، عام 1947. وقسّم القرار فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية وأخرى يهودية، ووضع القدس والمنطقة المحيطة تحت وصاية دولية. ومنح القرار سيطرة ليهود فلسطين على قرابة 57 في المائة من أرض فلسطين التاريخية، على الرغم من أن نسبتهم السكانية كانت 33 في المائة، وأغلبهم من المهاجرين الأوروبيين الذين لجأوا إليها في العقدين السابقين للقرار بسبب ويلات اضطهادهم في أوروبا والنازية، لكنهم لم يكونوا من سكّان فلسطين الأصليين، سواء العرب أو اليهود.
ومنح القرار قرابة 43 في المائة للفلسطينيين على الرغم من أن نسبتهم كانت تفوق الـ67 في المائة من السكّان، وكانوا يملكون الأغلبية الساحقة من أراضي فلسطين. وأيدت القرار آنذاك 33 دولة وعارضته 13 وامتنعت 10 دول عن التصويت. وكان عدد الدول الأعضاء في الجمعية العامة 57، وعدد قليل منها عربية أو مسلمة، إذ كانت هناك ست دول عربية فقط عضوة في الأمم المتحدة وهي مصر والعراق وسورية واليمن ولبنان والسعودية.
مهّد قرار التقسيم الأممي 181 لنكبة فلسطين، بحسب مختصين
ويرى مختصون أن القرار الأممي مهّد لنكبة فلسطين، حيث اشتد الاقتتال بعدها وارتكبت العصابات الصهيونية المجازر بحق الفلسطينيين، وأشهرها مجزرة دير ياسين (إبريل/ نيسان 1948)، وهجرت أكثر من 700 ألف فلسطيني. لكن "مرحلة البداية" تلك اتسمت بقرارات أخرى للأمم المتحدة ذات أهمية قصوى في الحفاظ على جزء من حقوق الفلسطينيين. وأبرزها القرار 194 (1949) والذي أعاد التأكيد على حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض، كما القرار 302 (1949) الذي أسّس لوكالة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا – وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى)، يؤخذ عليه التمويل الطوعي للمنظمة الأممية وعدم دمجه في ميزانية الأمم المتحدة، ما يجعل الوكالة رهينة للأهواء السياسية للدول المتبرعة وخاضعة لضغوطها.
وعلى الرغم من أن الجمعية العامة أدت الدور الأساسي بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن مجلس الأمن الدولي، المسؤول عن الأمن والسلم الدوليين، تناول القضية في العديد من المناسبات، من بينها دعوته إلى وقف إطلاق النار وإيفاده مراقبين عسكريين ونشره قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في المنطقة آنذاك. لكن دوره في تلك المرحلة بقي "مهمشاً" عموماً، ناهيك عن اعترافه بإسرائيل في 11 مايو/ أيار 1949، مع اشتراطه أن يلتزم الجانب الإسرائيلي وبشكل خطي بالقرارات 181 و194، وهو ما فعلته إسرائيل، لكنها لم تنفذ التزامها حتى يومنا.
مرحلة ما بعد النكسة: من التهميش إلى المركزية إلى التهميش
يرى الخبير في شؤون الأمم المتحدة والمحاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجيرسي، عبد الحميد صيام، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه على الرغم من صدور عدد من القرارات البارزة، فإن القضية الفلسطينية هُمّشت في المرحلة التي تلت النكبة فيها وحتى عام 1967، واحتلال إسرائيل لبقية أراضي فلسطين والجولان وسيناء.
ويقسم صيام تلك الفترة إلى ثلاث مراحل، أبرزها مرحلة "فاعلية عربية وتضامن نادر اتخذت خلالها قرارات مهمة"، وكذلك مرحلة ما سمّاه "رد الفعل"، وهي "المرحلة التي شهدت اتخاذ الكثير من القرارات كرد فعل على الأحداث التي تقع على الأرض".
ومن ضمن القرارات المهمة التي تمّ اتخاذها في تلك الفترة في مجلس الأمن الدولي، القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973) وفيهما وضع المجلس المبادئ الأساسية التي رأى أنها يمكن أن توصل إلى تسوية وعلى أساس التفاوض، وتعرف بصيغة "مبدأ الأرض مقابل السلام".
كذلك تبنّى مجلس الأمن قرارات حول القدس، أبرزها القراران 476 (1980) و478 (1980)، وشجب فيها وأعلن بطلان الإجراءات التي اتخذتها سلطة الاحتلال، عام 1980، لتغيير طابع القدس وضمّها، واعتبرها غير قانونية بموجب القانون الدولي. كما دعا الدول التي أنشأت سفاراتها في القدس إلى نقلها منها، وهو ما تم.
يشار في الفترة ذاتها إلى القرار 904 الذي تبناه مجلس الأمن عام 1994 بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل والتي قتل فيها 54 فلسطينياً أثناء صلاتهم في شهر رمضان وجرح المئات. ويطالب القرار إسرائيل بمصادرة الأسلحة "بهدف منع أعمال العنف غير المشروعة من جانب المستوطنين الإسرائيليين".
كما دعا إلى اتخاذ تدابير لضمان سلامة وحماية المدنيين الفلسطينيين "في جميع أنحاء الأراضي المحتلة تشمل توفير وجود دولي أو أجنبي مؤقت...". وعلى سبيل المثال كذلك، القرار 799 (1992) الذي يدين بقوة إبعاد مئات المدنيين الفلسطينيين (مبعدي مرج الزهور). وسبقته قرارات أخرى حول قضايا إبعاد تخرق اتفاقية جنيف (الرابعة عام 1949 بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب)، ومن بينها القرار 694 (1991).
وفي تلك المرحلة كذلك، ولكن في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعيد طرح قضية فلسطين على جدول أعمال الجمعية التي تبنت عدداً من القرارات المهمة جداً، من بينها تلك المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، والتي يعاد تبنيها سنوياً أو بشكل دوري، بما فيها حق تقرير المصير، وحقهم وسيادتهم على الموارد الطبيعية، وقضايا اللاجئين وممتلكاتهم، والمشردين داخلياً، ووكالة "أونروا"، وحقوق الإنسان، والمستوطنات الإسرائيلية، والتسوية السلمية لقضية فلسطين، والقدس، وغيرها من الأمور الأساسية.
كما أنشأت الجمعية العامة في عام 1975 "اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف"، فضلاً عن منح الجمعية العامة في عام 2012، فلسطين، وضع دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة.
وضع القراران 242 و338 لمجلس الأمن المبادئ الأساسية لصيغة "الأرض مقابل السلام"
ويرى صيام أن واحداً من أهم القرارات التي تم تبنيها عام 1975 في الجمعية العامة هو القرار الذي حدّد أن "الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". لكن القرار ألغي في عام 1991، إذ اشترطت إسرائيل إلغاءه مقابل ذهابها إلى محادثات مدريد. كما يلفت إلى قرار آخر، تبنته الجمعية العامة عام 1974 وأعطت بموجبه منظمة التحرير الفلسطينية صفة مراقب، وكانت تلك أول مرة في تاريخها تعطي فيه حركة تحرر وطنية هذه الصفة.
ويشير صيام إلى أن هذه المرحلة استمرت إلى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لكن توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1978)، والحرب الإيرانية – العراقية (1980 – 1988)، واحتلال الكويت (1990)، زادت من الشرخ في الصف العربي، وما لحقها من اتفاقية أوسلو وسّع هذا الشرخ وأدى إلى العودة لتهميش أو تغييب القضية الفلسطينية في مجلس الأمن على وجه الخصوص.
ويرى صيام أن هذا التغييب المتعمد عاد بقوة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول (2001 التي ضربت الولايات المتحدة) وبحدود عام 2005.
يشار في هذا السياق إلى أن الولايات المتحدة استخدمت بين عامي 2001 و2018 الفيتو (حق النقض) 12 مرة ضد قرارات تتعلق بفلسطين، آخرها كان في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. في نفس الوقت ولعقدين، لم يتبن مجلس الأمن إلا قرارات تعد على أصابع اليد الواحدة.
وعموماً، ومنذ تأسيس الأمم المتحدة، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو أكثر من 80 مرة، 43 فيتو منها ضد قرارات تتعلق بفلسطين أو الأراضي العربية المحتلة. وأبرز ثلاثة قرارات تبناها مجلس الأمن في العقدين الأخيرين، هي: القرار 1397 (عام 2002) والذي أكد على "حل الدولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنباً إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعتـرف بها، والقرار 1515 (عام 2003) والذي أيّد خريطة الطريق التي وضعتها المجموعة الرباعية (الأمم المتحدة، روسيا، الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي).
وقبل أقل من شهر على تسليم إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما الحكم لترامب، تبنى مجلس الأمن في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2016 القرار 2334 الذي دان الاستيطان وطالب إسرائيل بوقفه الفوري وعلى نحو كامل. ولم تلتزم إسرائيل بتطبيق هذا القرار، بل هي لا تزال توسع استيطانها.
كذلك اتبعت الولايات المتحدة سياسات تحول دون تقديم مشاريع قرار للتصويت عليها أمام مجلس الأمن في أكثر من مرة في السنوات الأخيرة. وفي عام 2011 قدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس طلباً إلى مجلس الأمن لكي ينظر بحق فلسطين بعضوية كاملة، وما زال الطلب معروضاً منذ ذلك الحين من دون اتخاذ قرار بشأنه.
الأمم المتحدة خارج إطار مجلس الأمن والجمعية العامة
هناك عدد من منظمات الأمم المتحدة تؤدي دوراً رئيسياً كذلك في ما يخص القضية الفلسطينية، ومن ضمنها مجلس حقوق الإنسان والذي له دور مهم في توثيق جرائم الاحتلال، بما فيها التحقيقات الخاصة التي طلب إجراءها كتحقيق (القاضي ريتشارد) غولدستون (بعثة تقصي الحقائق - 2009) حول حرب غزة في ذلك العام ومقتل أكثر من 1200 مدني فلسطيني.
كما أصدرت محكمة العدل الدولية، التابعة للأمم المتحدة، رأياً قانونياً حول جدار الفصل وعدم قانونيته واعتمدت الجمعية العامة بناء عليه قراراً يحصر الخسائر التي يتعرض لها الفلسطينيون بسبب الجدار وشكلت لجنة خاصة بذلك. وتنظر المحكمة حالياً في طلب آخر من الجمعية العامة حول الاحتلال والخطوات التي يجب أن تتخذها دول ثالثة.
عبد الحميد صيام: اتفاقية كامب ديفيد ثم وصولاً إلى أوسلو زادت من الشرخ العربي في الأمم المتحدة
ولعل واحداً من أهم القرارات التي اعتمدها مجلس حقوق الإنسان في عام 2021 هو إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة، برئاسة الحقوقية الجنوب أفريقية، نافي بيلاي، من دون تقييد فترة عملها بمدة زمنية، للتحقيق في جميع الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، ليس في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 فحسب بل كذلك في الداخل الفلسطيني. ويشار هنا كذلك إلى قرارات منظمة "يونيسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) حول القدس. وهناك أذرع إضافية للأمم المتحدة تؤدي دوراً مهماً في القضية الفلسطينية من ضمنها "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)" والذي يُركز في ما يخص فلسطين على الاقتصاد الفلسطيني والبحث والتحليل والتعاون التقني.
ويأتي ذلك إلى جانب "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا" (إسكوا)، والتي تقدم كذلك تقارير عن الأثر الاقتصادي والاجتماعي للاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى المقررين الخاصين المستقلين عن الأمم المتحدة ولكن الذين يتم تعيينهم من قبلها ويقدمون تقاريرهم لها. ودور هؤلاء لا يستهان به خصوصاً بسبب الاستقلالية التي يتمتعون بها.
وحول التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية في المنظومة الأممية رغم النجاحات التي لا يستهان بها، يقول صيام إنه "من الضروري ألا ننظر للمرحلة الحالية بشكل مطلق ويجب التمييز بين منظمات الأمم المتحدة المختلفة وبين الجمود شبه التام الذي يشهده مجلس الأمن حول فلسطين والكليشيهات التي لم يعد لها قيمة ويتم تكرارها حول "حل الدولتين" دون اتخاذ المجلس أي خطوات فعلية على الأرض، ناهيك عن تغييبها (القضية) في المحكمة الجنائية الدولية".
ويحذر صيام من "تحول" خصوصاً في ما يتعلق بالأصوات الأفريقية وغيرها في الجمعية العامة بسبب الضغوط الأميركية والعلاقات الإسرائيلية مع بعض القيادات الأفريقية وتجارة السلاح والوضع الفلسطيني الداخلي، بما فيها تنسيق السلطة الفلسطينية الأمني مع إسرائيل وتطبيع دول عربية والانقسامات العربية الداخلية كما الحرب في أوكرانيا وغيرها. ويرى أنه يمكن قياس ذلك بطرق عدة، من بينها مقارنة سجل التصويت على عدد من القرارات في الجمعية العامة سنة بعد أخرى.