يحيي الفلسطينيون، اليوم الإثنين، الذكرى الـ75 لعام النكبة (1948)، التي يُنظر إليها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على أنها شأنٌ راهن وفعلٌ مستمر جرّاء تفاقم سياسات التطهير العرقي والتهجير ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والإعدام الميداني والاجتياحات والتضييقات على الشعب الفلسطيني، والتي تمارسها المؤسسة الصهيونية الإسرائيلية باختلاف حكوماتها أو عصاباتها الصهيونية كما كان يطلق عليها قبل ذلك في كل أرض فلسطين التاريخية.
والإجماع قائم اليوم على أن النكبة مستمرة، وإن كانت أدواتها قد اختلفت، إذ أصبحت تتغلف بقوانين سُنّت ولا تزال تسن من قبل الحكومات الإسرائيلية لتُلائم استمرار عملية التطهير العرقي ولترتكب جرائم الاحتلال بتغطية وبغلاف قانوني، ولتبقى بوصلة الصهيونية سارية المفعول: "أكبر عدد ممكن من العرب على أقل رقعة أرض". وفيما تشهد إسرائيل حكم أكثر حكوماتها تطرفاً، تعلو في الآونة الأخيرة أصوات التهديد من اليمين المتطرف بنكبة جديدة.
تهديد اليمين الفاشي بنكبة جديدة
ويقول الكاتب والمحلل أنطوان شحلت إنه "منذ أعوام عدة، تعلو في ذكرى النكبة الفلسطينية أصوات إسرائيلية استثنائية قليلة تشدّد على ضرورة الاعتراف بها لناحية تحمّل المسؤولية عنها، وبالأساس في سبيل المُضي قدماً نحو تجاوز تبعاتها التي لا تزال مستمرة".
غير أن الأمر المُلفت، بنظر شلحت، "هو ما استجد في مواقف اليمين الإسرائيلي، حيث تراكمت أخيراً إشارات قوية تشي بأنه قام بالانتقال من مرحلة إنكار النكبة إلى مرحلة الإقرار بها وبفظائعها بغية التلويح علناً بالاستعداد لتكرار ارتكابها، كما انعكس ذلك في تصريحات عدد من المسؤولين الحكوميين والبرلمانيين في الفترة القليلة الماضية".
أصبحت النكبة تتغلف اليوم بقوانين سُنّت ولا تزال تسن من قبل الحكومات الإسرائيلية لتُلائم استمرار عملية التطهير العرقي
ويتوقف شلحت عند تهديد أحد قادة حزب "الليكود" والوزير الحالي يسرائيل كاتس (في مايو/ أيار 2022)، الطلاب الجامعيين الفلسطينيين الذين أحيوا ذكرى النكبة في جامعة تل أبيب بنكبة أخرى، إذا ما استمروا في التلويح بالعلم الفلسطيني، بل وحثّهم على تذكّر عام 1948 وأن يتحدثوا بشأنه مع أجدادهم وجداتهم. وقال كاتس أمام الكنيست الإسرائيلي: "إذا لم تهدأوا، فلسوف نعلمكم درساً لن تنسوه أبداً".
كما يذكّر شلحت بما قاله الصحافي الإسرائيلي إيتمار فلايشمان، الذي كان في الماضي متحدثاً بلسان نفتالي بينت (رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق)، في برنامج تلفزيوني، ومما جاء فيه: "إن ما حدث هنا في نهاية المطاف أن العرب نسوا النكبة، وحان الوقت للبدء بتذكيرهم بها". ويضيف فلايشمان: "إذا لم يتعقّلوا، وإذا واصلوا قتل أولادنا، فإن المحطة الثانية لهم هي الانتقال إلى الأردن، أو إلى مخيم اليرموك في سورية. هذا سيحدث إذا استمرت الأمور على هذا المنوال. ببساطة، نأخذهم في الشاحنات ونرميهم خارج الحدود، وهكذا سينتهي الأمر".
كما يتطرق شلحت إلى ما قاله صحافي يميني آخر يدعى كالمان ليبسكيند من أن "ما يسميه العرب نكبة ليس إلا حدثاً مفرحاً. نعم هكذا بالضبط؛ وليس فقط لأنه في ختام هذا الحدث وقفت دولة إسرائيل على قدميها، بل بما لا يقل عن ذلك لأن الرسالة التي تلقاها العرب هي أن هذا سوف يكون عقاب كل من يحاول أن يقتلنا أو يمحونا عن الخريطة".
وبحسب شلحت، فإنه من خلال التهديد بنكبة جديدة يؤكد زعماء إسرائيليون، وعلى الرغم من كل ادعاءات إنكار جرائم 1948، أنهم كانوا طوال الوقت يعلمون ما الذي تعنيه النكبة، وأنهم باستمرار كانوا موافقين على الغاية منها ألا وهي تنفيذ حملات الترانسفير والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين.
النكبة فعل مستمر
من جهته، يقول مدير مركز مدى الكرمل مهند مصطفى إن "النكبة مستمرة، هذا هو حال الفلسطينيين في حياتهم اليومية، ولا شك أن صعود اليمين المتطرف القومي والديني الذي يحمل برامج مسيانية (برامج سياسية تعتمد على فكرة الخلاص الديني، وأفكار غيبية دينية) في السياسة، سوف يعمق حالة النكبة التي يعيشها الفلسطينيون". ويلفت مصطفى إلى أن "النكبة تعني في جوهرها استمرار قمع إسرائيل للحركة الوطنية الفلسطينية وأهدافها المتمثلة في منع حق العودة، استمرار الاستيطان، مصادرة الأراضي، قتل الإنسان الفلسطيني جسدياً وسياسياً، ومنعه من تحقيق طموحاته السياسية والوطنية".
مهند مصطفى: صعود اليمين المتطرف القومي والديني في إسرائيل، يعمق حالة النكبة التي يعيشها الفلسطينيون
كما يلفت مدير مركز مدى الكرمل في هذا الإطار إلى أن اليمين الإسرائيلي يعمل بشكل مثابر منذ عقدين لتفكيك الحركة الوطنية الفلسطينية ومنع الشعب الفلسطيني من تحقيق أدنى طموحاته المتمثلة في إقامة دولة فلسطينية، وذلك من خلال الاستيطان، والسيطرة على الحيّز الفلسطيني من أجل فرض أمر واقع، فضلاً عن التهجير الممنهج في القدس والمناطق المصنفة "ج" في الضفة الغربية، والتي أعطى اتفاق أوسلو السيطرة الأمنية والمدنية الإدارية عليها للاحتلال.
لذلك، برأيه، فإنه "إذا مثّل كل ذلك النكبة، أي الاستيطان، التهجير الفردي، وتضييق الحيّز الفلسطيني وانتهاك الجسد الفلسطيني حياً وميتاً، ومنع الفلسطينيين من تحقيق مشروعهم الوطني والسياسي، فإن النكبة مستمرة، وإن بأدوات مختلفة عن عام 1948". ويعتبر مصطفى أن "الحركة الصهيونية التي استولى عليها اليمين المتطرف القومي والديني يرى أنه لا يزال في مرحلة الاستعمار والاستيطان، وأنه لن يتوقف حتى بعد القضاء على الحركة الوطنية الفلسطينية، وبالنسبة إليه، فإن دولة إسرائيل هي مجرد حركة وليست دولة، الدولة تكون بالنسبة إليه بعد تحقيق مشروعه الاستيطاني والاستعماري الخلاصي".
النكبة أطول عملية تطهير عرقي
من جهته، يتطرق الكاتب عوض عبد الفتاح إلى النكبة الفلسطينية بوصفها "أطول عملية تطهير عرقي في التاريخ". ويؤكد عبد الفتاح أن النكبة "ليست حدثاً منتهياً، أو جريمة اكتفى المجرم بارتكابها وتوقف، بل هو يواصل ممارسة الإجرام اليومي، والطرد والحصار والتهجير، وقد مأسس منظومة كاملة تستند إلى أيديولوجيا إقصائية واستئصالية، في مواجهة شعبنا".
ويضيف: "لسنا الشعب الوحيد الذي تعرض للغزو الاستعماري الاحتلالي، وليست مقاومة شعبنا لهذا الظلم الفادح فريدة، فكل الشعوب قاومت مستعمريها، وقدمت تضحيات هائلة. ولكن ما يميز التجربة الاستعمارية في فلسطين، هو أنها أولاً آخر استعمار كولونيالي، وثانياً، وهو الأخطر، كون النظام الاستعماري الرأسمالي العالمي هو الذي خلق مأساة فلسطين، مستخدماً يهود أوروبا عبر فئة اختطفت اليهودية وحولتها إلى قومية، جُسدت في حركة استعمارية كولونيالية رجعية".
وبرأيه، فإن هذا النظام العالمي العدواني، الذي أعيد تشكيله بعد الحرب العالمية الثانية، لا يزال يغذي جريمته عبر الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي. ولهذا يشكل صمود الشعب الفلسطيني في وجه هذا النظام الظالم، الذي يتشكل من أقوى الدول الكبرى، صموداً أسطورياً وفريداً، بحسب عبد الفتاح.
عوض عبد الفتاح: نشهد مرحلة جديدة يستعيد فيها الشعب الفلسطيني عالمية قضيته
ويضيف الكاتب أنه "لهذا السبب، نشهد مرحلة جديدة يستعيد فيها الشعب الفلسطيني عالمية قضيته، بعدما بدّدها اتفاق أوسلو الكارثي، ويعيد تأطير قضيته كقضية تحرر وطني من نظام أبرتهايد (فصل عنصري) كولونيالي، وكقضية كونية، أو كرمز للعدالة ولنضال الشعوب قاطبة من أجل التحرر والحرية".
ويشير إلى أنه "تتكشف حالياً ديناميات ومفارقات وتناقضات المشروع الصهيوني، الذي كان هدفه النهائي تكريس تمدده الاستعماري وفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، وإسكات التاريخ ومحو وجوده الثقافي، ولكنه وجد نفسه أمام التحدي الديمغرافي، والتحدي السياسي والأخلاقي". ولهذا السبب، يلفت الكاتب إلى أن المشروع الصهيوني "غير قادر على تطهير من بقي من الشعب الفلسطيني في الوطن، ولا قادر على احتوائهم وتذويبهم على هامش منظومته العرقية الإقصائية".
ويرى عبد الفتاح أخيراً أن "كل ذلك يشكّلُ فرصة مواتية لأصحاب القضية، وللعرب، خصوصاً أن هذا الكيان بات مفضوحاً ككيان أبرتهايد، بعدما كان مسوّقاً كنظام ديمقراطي وحيد في المنطقة العربية. ولكن كما يبدو فإن شعبنا الفلسطيني سيتعين عليه مواصلة خوض المعركة وحيداً".