محمد مستجاب... الموهوب رغم أنفه

17 اغسطس 2023
+ الخط -

هل من المعقول أن يمرّ الزمن هكذا سريعا بمحمّد مستجاب بعد موته، وبي أيضا، هل تلك الحياة، البطيئة في لحظات الضيق، سريعة أيضا جدا حينما نتذكّر موت أحبّتنا؟ الزمن، ذلك الظل الناعم جدا والخفيف جدا، والذي يُخايلنا سعداء، فيعبُرنا سريعا، أو يُثقل علينا وزنه، فيظل كحملٍ ثقيلٍ فوق هاماتنا.

كيف تفلّت مستجاب من كل هذه السنوات التي عبرت، وهل تدارى بعيدا خلف غلالةٍ من دون أن نراه ضاحكا أو مجلجلا، أو ساخرا، أو غاضبا كجبل، حتى يأتي الأسبوع التالي فيقول لك: "أنا مستني يا واد على القهوة هات بسرعة السمك وأنا في جيبي الليمون ورجلك فوق رقبتك"، وذلك بعد زعلٍ امتد شهورا، ويفعل ذلك باسما ومن دون كلمة عتاب واحدة، مني، أو منه. نبدأ الحديث بالضحك بعد الزعل عن "كوبرى البغيلي"، قصته الجميلة، وأتذكّر ذلك الطفل أمام والده فوق حماره، والوالد يداعبه قائلا له في لحظات الصعيدي مع ابنه الذي يحبّه: "يا خوفي تطلع خِرع زي أخوالك"، وإذا بطلقةٍ تخرُج من المزارع، كان مُطلقها يتبع الرجل، يضحك مستجاب، ويقول لي: "أصابعك تشبه أصابع قسيس"، يأخذنا الكلام عن الكتابة، وعن الكتّاب المثقفين جدا من أنصاف المواهب والمؤدّبين جدا، يعيد الضحك مستجاب بخبث الصعيدي حينما يمتلك الطاب، ويقول: هناك كتّابٌ من أصحاب "سنّ المحراث"، فأعلن اندهاشي من الكلمة، فيقول أصحاب سن المحراث في منتهى الأهمية في حكاية الكتابة، ويذكر أن أغلب النقّاد البلداء كانوا في الأصل من الكتّاب أصحاب سنّ المحراث، وهم الذين، بهممهم العالية وثقافتهم البارعة، بسنّ محراثهم، مع المواهب الخبيثة مثلك، يقومون بهذا الدور ببراعة شديدة، وهذا الدور عندي أكثر وهجا وفرحا من كل كتب النقد التي ملأت المكتبات منهم. أضحك، فيقول: ليس لك الحق في الضحك وأنا هنا... بالأمس تأملت السنوات بعد رحيل مستجاب "1938 – 26 يوليو/ تموز 2005"، ما أخفّ السنوات في مرورها، وما أثقلها أيضا.

كان مُستجاب يحبّ الظرف والظرفاء، فماذا سيكون حاله لو عاش في أيامنا؟ سؤالٌ أعدتُه على نفسي، وأنا أحاول بالطبع أن أكتم ضحكة مُرّة، حاولت، ولكن قلت الحمدلله إنه غير موجود.

كان لمّاحا وسريع البديهة في الردّ، ويغضب كجبل، لكن حينما يحبّ كتابة ما، كان رحمه الله يتحوّل إلى طفل، فيكتب فرحان بالموهبة، وإن كنتُ في بيته وقلت قصة، كان ينافسك بلا أستاذية، وينادي على سوسن ابنته، ويقول لها "هات الملفّ الفلاني"، كي يقرأ عليك قصته، كان طفلا في الفرح وطفلا في الغضب، وفي الكتابة جبلا.

لا أعرف لماذا تذكّرته بالأمس. هل لأن سني قاربت الآن سنّه إلا سنتين، هل لأنني افتقدت الصراحة في الغضب والعداء. كان محمد مستجاب مائدةً عامرة للضحك والكتابة والغضب، يحبّ القاهرة، ويتدارى منها في جلبابه الصعيدي، يحبّ هدوء الصحراء، ويناطحها بصخبه وجلبته، يحنو على أولاد الصعيد، في الكتابة، ويقسو عليهم أيضا، يحبّ ضيوفه، ويميل عليهم في أوقات أحزانه وعثراته.

كان مُستجاب جملا واضح العداء، ولأنه لم يجد لنفسه مكانا آمنا في القاهرة، نفسيّا على الأقل، كان يحوّل بيته إلى قاهرة أخرى عامرةٍ بالضحك. كان يقول لي: نحن الذين نكتب ولم نولد في القاهرة شبه يتامى. ويكمل: فقط أنا جئت هنا كي أرعى أغنامي التي تشبه كتبي وكتاباتي، فأغنامي هي كتبي بالفعل، فحافظ قدر الإمكان على سلامة أغنامك، ويضحك قائلا: "أما مآلي فهناك".

لم أستغرب حينما عرفتُ أن مستجاب دفن في مقابر الفيوم، بعيدا حتى عن بلدته ديروط الشريف، التي فيها كتب درّته "التاريخ السرّي لنعمان عبد الحافظ"، والتي لم أكن رأيته من قبل وقرأت دراسة عنها، فقلت لنفسي راضيا: "إن كانت تلك هي الكتابة، وهي هكذا، فسوف أكون أنا كاتبا". وطمأنت نفسي على فلاحي. لماذا تذكّرته بالأمس، رغم كل تلك السنوات؟ هل لأن الروح اشتاقت للضحك والوضوح والعداء لجبل صريح، يتحوّل في آخر الليل إلى نسمةٍ، حينما يدير وجهه إلى هناك ويقول مودّعا: "طيب سلام"؟

أتذكّر الآن آخر كلمتين قالهما مستجاب قبل موته بيومين، وكان بمستشفي قصر العيني يُعالج، وكان الإنهاك قد ظهر عليه. وذهب إليه الصديق حسن خضر بصحبة شاعر آخر، كان حميما لمستجاب، فسلّم على حسن خضر من دون أن يلتفت إلى صديقه الحميم جدا قائلا: "أنت جاي يا حسن والله فيك الخير". بعد يوم قال لأولاده: "عاوز أروح البيت حالا" وبعد يوم مات.

محبّة، يا مستجاب، فلك أشتاق، بعدما تركت القاهرة من سنوات، وعدت بلا أغنام.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري