مسألة أن تحبّ كتابة ما

20 يونيو 2024

(نهاد الترك)

+ الخط -

بالطبع، لم يشاركك هذا الكاتب بشكل شخصي في حديقة عنب، وكانت عشرته طيبة ولطيفة، ولم ينقل لك شتلات نخيل بلح من حديقته إلى حديقتك ولم يأخذ ثمنها. ولكن هناك شفرة ما في الكتابة تقرّبك من روح هذا الشخص، سمّها شفرة القلب أو أي اسم آخر، شفرة تجعلك قريباً جدّاً من هذا الشخص من دون معرفة أو نسب أو لقاء، وكم تتمنّى أن تراه ولو حتى من طرف عينك في مقهى في لشبونة، أو عين الصيرة، أو تحت نخلتيْن في بيت قديم مهجور في "قرية دقاق"، أو "كوم الدكّة"، شفرة تناديك وتجعلك تصرخ قائلاً: "هكذا تكون الكتابة"، قرابة غامضة ومحبّة وولاء.

هو ليس من قريتك تماماً، ولو حتى في الأحلام. وقد يكون والده تاجر أخشاب من روما، أو العصافرة، أو البرتغال، أو إندونيسيا، أو حتى بائع عصافير، ولكن حينما تتذكّر والده وهو يعدّ العصافير ليلاً بعد الشراب خوفاً عليها من الابن الصغير المجنون، تضحك، وتتمنّى أيضاً أن ترى ذلك الأب في سوق إمبابة أو سوق الإمام، وقد يصير صاحبك ويذهب معك إلى مكان قديم في السوق، مليء بالولّاعات القديمة، بما فيها التي جاءت مع الجنود أيام حرب اليمن من عدن أو صنعاء، فهل رأى رامبو في عدن من ذكّره بباريس وأزقتها أو قريته في الجنوب؟ ولكن ساعتها كان رامبو قد نفض عنه ريش الموهبة تماماً بعد ما سلخت روحه باريس.

أن تحبّ كتابة ما، ليس لأنك تمتلك مزاج صاحبها واهتماماته، كاهتمامه بالجينوم مثلاً. وليس لأن زهقك من بعض الأشياء في العالم يقترب اقتراباً شديداً من درجة زهق صاحب تلك الكتابة، وليس لأنه ركب سفينة من إسبانيا وأبحر إلى شرق آسيا، وعاشر "غجر البحر"، وكتب عنهم كتاباً، ولم يعُد ثانية إلى إسبانيا، كما فعل رامبو وعاد مريضاً.

هناك شيءٌ ما يدبّ داخل الكتابة ينبهك بقرابة ما، قرابة روحية، مع صاحب تلك الكتابة، وقد تكون صحبة ما لم تتم أبداً ولن تتم، وكأنكما كنتما معاً في تجارة ما غامضة، بالقرب من بلد لم يعد له أي اسم الآن.

هل لأنك مشيت وراء الأغنام مع صاحب تلك الكتابة يوماً، رعي من وراء الغيم، في جبلٍ ما لم تعد تتذكّره، أم هل بسبب الكسل ملت إلى تلك الكتابة؟ هل لأنك لست معاركاً وتتوخّى دائماً الهروب من أي مشهد، مثل تلك الكتابة التي ترتدي دائماً، خجلها؟

عراك الحياة كالحقن للكتابة، وخاصة في الجوائز والمؤتمرات وأبواب الجامعات المفتوحة للرطانات في مواسم الكتابة، رغم أن الكتابة التي تحبّها دائماً عزلاء كاليُتم تماماً، كتابة لا تشتهي المكاسب في موالد الكتابة، كتابة لا تحرق بعد جمع محصول القصب بأيام، ككتابات الأسواق، تسعى إلى شراء ملابس العيد أو خروف العيد أو عطور الحفل والقهوة لزوم السهر والعناد مع الرواية أو بحث الترقّي لنيل درجة الأستاذية، كتابة يتم تعتيقها في البلاليص، على رأي الكاتب العبقري الراحل، عبد الحكيم قاسم، لنيل الثناء من الباب العالي إلى مصاطب النقّاد، هل لذلك تخجل خجلاً شديداً من الكتابة الجميلة، وكأنها امرأة بسيطة تحمل جمالاً غامضاً، وذاهبة إلى ماكينة الطحين آخر الليل بقدحين وغير سعيدة بجمالها.

بعد جمع عيدان القصب، يحرق الخفراء العفش في مكانه، وتصير الأرض سمراء، ويجري إطلاق المياه فيها، فيما بعد، وتبدأ عيدان القصب في الإنبات ثانية، وترعى البنات الصغيرات جواميسهن بالقرب من العيدان التي نبتت بجوارها عيدان القسباء، أفراح المحاصيل والأرض والكتب التي تتسارع كل يوم من أفواه المطابع كي تلحق بالمعارض والجوائز وذيول النقّاد، كالكتابة التي تحاول أن تداعبها ولا تستطيع، فتتركها في كتب أصحابها راضية قريرة، وتبحث في الكتب عن تلك الأشياء الغريبة التي خالفت ظنون الزرّاع والصنّاع والتجّار، وتحاول جاهداً أن تُنصت لها، فتغلق الصفحات خجلاً، وتدّخر ذلك الكتاب لوجعك وحدك.