نرجس شوقي

04 يوليو 2024
+ الخط -

كِدتُ في ساعات مغارب إجازاتي في عام 1983 أن أدمن الوقوف أمام الباب الرئيسي لمسجد الحسين، مستنداً بظهرى على سور الحديقة لتأمّل البسطاء من الناس في ذلك المكان وحكاياتهم التي لا تنتهي.

كانت الأذن، ساعتها، تلتقط الكلمات والهمهمات من قلب الحكايات كهدايا ثمينة، وأعود وجعبتى مليئة إلى عملي بالـ sos، حتى جاء اليوم الذي وقف بجانبي شخصٌ غريبُ الحركات وودود أيضاً، ويبدو كنابهة تعثّر معه الحظ، وجانبته التعاسة في كل خطواته ومشاويره، وكان اسمه رمضان الخطيب. وقال لي متفاخراً ومعلناً مباشرة عن نفسه: "أخوك رمضان الخطيب من منطقة الشيخ رمضان، طالب بحقوق القاهرة، ظل بالكلية سنوات طويلة، ولم يحصل على شيء والحمد لله من قبل ومن بعد". ابتسمتُ وابتسم أيضاً، ولا أعرف كيف ساقتنا تشعّبات الحديث إلى الغناء في العراق، وكان هو حجّةً فيه ولا يبارى، وكأنه يتكلم من كشكول. ... هل لأنني، مثلاً، نطقت بتلك الأغنية العراقية التي لازمتني في المحبّة، وتقول: "ناولتني من ورا التنّوري رغيف يا رغيف الحلوة يكفيني سنة". ساعتَها، اعتدل ميزان الغناء والكلام واللحن في فم رمضان الخطيب، وعدّل لي كل ما أخطأتُ فيه أنا الذي يهوى السماع بلا تقعّر ولا حفظ ولا دراسة ولا متابعة متأنية، ودخل بنا إلى بحر الأغنية النسائية العراقية القديمة، قائلاً: "عاوز تسمع ستهم كلهم اسمع ميّادة نزهت".

مرّت السنوات والتي اقتربت من الأربعين، ولم أر رمضان الخطيب ابن منطقة الشيخ رمضان، إلى أن سمعتُ من سنوات معدودات مطربة مصرية الأصل عراقية الهوى، اسمُها نرجس شوقي، كانت تغنّي في العراق في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي باللهجة العراقية كأهل العراق عقدين، وحدث أنه جاء إلى بغداد مطربٌ كان مغموراً آن ذاك وزوجها أيضاً، وظلّ معها في كار الغناء، وهو محمد عبد المطلب، حتى أخذته شهوات السينما والصورة، وكانت السينما الباب الملكي للانتشار، كما أدركت أم كلثوم وليلى مراد. وإذا بالزوج والمطرب المغمور آن ذاك يُقنع نرجس شوقي بأخذ مدّخراتها لعمل فيلم بطولة الاثنين في مصر. وكان هو "الصيت ولا الغنى"، وخسرت نرجس شوقي كل مدّخراتها وعادت إلى العراق، وظلت تغني عقدين باللهجة العراقية نفسها، بتلحين كبار الملحنين، كصالح الكويتي، ورضا علي، وسمير بغدادي الذي صار زوجها أيضاً. وكانت مقرّبة من كبار المطربات العراقيات، كنزهت العراقية، وذكية جورج، وحكمت كامل، وفريدة علي.

حاولتُ من سنوات أن أجد أي فرق ما بين أداء نرجس شوقي اللهجة العراقية وأي مطربة عراقية أخرى من جيلها، فلم أستطع، وكأنها ولدت وتربت وعاشت في العراق، فهل تلك السيدة هي أم نور، ابن عبد المطلب، والذي كان يحلو للسمّيعة مناوشة عبد المطلب في حفلاته قائلين: "كمان يا أبو نور".

مات نور من سنوات معدودات في المغرب، وكان يعمل متعهد حفلات هناك، ومات بعد معاناة مع المرض. وبالمقاربة الزمنية لزوجةٍ في منتصف الأربعينيات وسن نور الذي كان يجيد لعب الطاولة على المقهى في القاهرة، وهو في الستين من عمره من عشرين سنة، تكون نرجس شوقي هي الأقرب إلى أن تكون أمه. أتذكّر حينما ظهرت عليه علامات الموت في المغرب، ناشدت شخصيّات مغربية بنقله إلى وطنه، وحتى بعد ما مات بيوم، فهل أفلحت السلطات في نقله أو في نقل جثمانه، لكن تكلفة نقل الجثامين مكلفة كثيراً أكثر من تكلفة "الحكّام الأجانب لكرة القدم بالدولار".

لماذا يظلّ الفنان المصري غريباً عن وطنه، ولا يجد من يحمي عثرته أو مرضه، رغم أنه يحقّق شهرة هناك، مثل نرجس شوقي. وقد يكون أمر نرجس شوقي هي الأخرى الذي لا يعرف الناس أنها مصرية قد دُفنت هي الأخرى في العراق بحكم زواجها من سمير بغدادي. أما ميادة نزهت التي عرفت أيضا أنها كانت سورية، فقد أصابني منها ذلك السهم الذى ساقه لي، في بداية عمري، رمضان الخطيب إمام مسجد الحسين، فهل كان الوطن العربي في الأربعينيات أكثر رحابة وإنسانية وحنانا من الآن؟، للأسف، أظنّ ذلك.

سلام لك يا رمضان الخطيب في منطقة الشيخ رمضان، ثائر وخطيب كلية حقوق القاهرة سنوات في حقبة السبعينيات، ولم يحصل على شهادة، وكان يسكُن غرفة، كما قال، في السطوح.