العزلة عن قناعة روحيّة

27 يونيو 2024

(سعد يكن)

+ الخط -

بلا رسالة ولا يحزنون، وبلا مرارة أو أيّ ضيق من خلق الله، أعني ذلك الخفاء غير المتعمّد، ذلك الخفاء الجميل، الذي فيه تتبختر الروح فرحاً بعزلتها، والتي هي غير مقصودة بإلحاق الضرر بأحد، وبلا إعلان سيرة تلك العزلة أو إشهارها، لأنّ ذلك مفسدة لرحيق العزلة نفسها.

سمّه سلاماً أو أيّ شيء يشبه السلام، بعيداً بالطبع عن تماحكات السياسة، أو سمّه "مركب نوح" لك وحدك، ولا تَسلْ عن الطير، أو الأرزاق، وأنت حتّى بين حجرين، سمّه ابتعاداً بالروح عن الأذى قدر الإمكان كي لا نموت بالأذى، وحكيماً من تجنّب الأذى قدر الإمكان، بلا تخاذل أو مذلّة لأحد كان على وجه تلك الأرض.

عزلة ليست من صميم البطولة، عزلة لشجن الوحدة، وتأمّل ما يحدث بعيداً عن صخب الأحداث وهشاشتها المقصودة بفعل فاعل، ليلَ نهارٍ، مثل مشاجرة لاعب في "مول" وعصابة من خلفه أو ذلك القرد الذي ابتلع نمساً، أو ذلك الصعيدي الذي قرص عمرو دياب من الخلف فناوله المطرب كفّاً، كما كان تاجر الدجاج، من الفيوم، كلّ صباح في الثلاثينيّات من القرن الماضي، يترك هديةَ إعجاب، أو عربون محبّة، قفصَ طيورٍ أمام "فيلا" ليلى مراد، أو تلك الخطابات بالآلاف، التي كانت تصل شقّة زبيدة ثروت مثلاً، أيّ عزلة بلا أحزان مُعتّقة أو أيّ بكاء على أيّ لبن مسكوب.

أن تعيش هكذا، وفق ترتيبات روحك فقط، لا تعبيراً عن موقفك من الكون أو البشر، عزلة تتأمّل ما كان في أول الليل كتلك العصافير التي تفعل آخر مشاكسات لها في القلب من خضرة تلك الشجرة، التي هناك في لحظات الغروب، قبل أن تنصرف تماماً لسكينتها.

عزلة تكبّ فيها كلّ مسائلك في البحر كلّ ليلة، كي تعود إليها في الصباح، وأنت تتأمّل الصخب أمام محلّ فول وطعميّة، فتبتسم لنفسك في مرارة على إعلام المساء، والمشاريع، التي زاحمت العصافير في العدد والطيران للسماء بفرح، كما قالت الكاميرات من فوق نجيل أخضر غُرِسَ ليلاً.

عزلة أن تكون حقيقياً أمام مرآة روحك أو في غيابها، حتّى إن جاورتْ لصوصاً في صحراء، عزلة لماذا خلق الله الورد هكذا، وجعله جميلاً، وخاف عليه من الأذى، فأحاط غصونه بالشوك، كتلك الشمعة المسكينة التي ستذوب هي الأخرى باحتراق خيطها.

بالطبع، ستسأل عمّن يقطّع الأشجار ليلَ نهارٍ، ويزرع مكان كلّ شجرة مائة شجرة من المانغو كي يأكل المساكين، وستسأل كيف امتلك "القاطع" ذلك القلب الخشن والكلام الذي يشبه الحنّاء، الكلام عن الشجر، هو كلام عن العزلة والخفاء والغابة والصمت أيضاً، وهذا، لو تُركتَ أصلاً لصمتك، ما كلّ تلك الحرائق المصنوعة؟ حرائق كلام وحرائق أحداث وحرائق ملاعب كرة القدم؟ هل كلّ تلك الأشياء بعفو الخاطر، وهل ستُترَك أنت في العزلة تتنعّم وحدك ونحن نحترق، يا عمّ!؟

بالطبع ستسأل عن الأهل والأحباب والأصحاب، فهل ما زال الأصحاب كما كانوا في جنّة عدن، لا تستطيع أن تختفي في غابة مليئة بالثعابين، ولن تتمكّن أبداً من الوصول لأيّ صاحب في جنّة عدن. كلّ شيء في الوجود شائك، وأنت من تختار، إن كانت لديك معجزة الاختيار، وإن كنت مثل هؤلاء المساكين كلّهم فانتظر الحكومة أن تنقّي الغابة من الثعابين، بعدما تتخلّص من مشكلة الكلاب الضالة. التماسيح أيضاً، تحب الهدوء كي تصطاد فرائسها بسهولة، وقد تكون وهي هادئة تماماً في المياه تستمع لغناء ما يأتيها من آخر الغابة، وعلّها تشمّ روائح العداوة من بعيد، وتتألّم أيضاً، كما يتألّم الناس وهم في انتظار أفراحهم وأرزاقهم في آخر الشهر. التمساح موظّف هو الآخر لدى شهواته، مثل سائر الناس، ولديه التزامات.