في المقهى غرام ما
تكون خارج إطار البيت، وتنادي فجأةً وأنت بالقرب من باب المقهى على صاحبٍ قديمٍ بالكاد عَرَفَته ولم ترَه من سنوات، وإذا به يجلس كهدية بين يديك، ويُحدّثك باسماً عن شَعرك المفلفل، الذي كان يشبه شعر اللاعب السوداني قرن شطّة، وفي الوقت نفسه، يُمسّد على رأسك بطيبةٍ بعد ما قَصُرَ شَعرك. ومن جيب "الصديري" يُخرج "برشامتَين"، محاولاً قدر الإمكان أن يُداري أسنانه الكثيرة المخلوعة، وتُمسّد أنت الآخر على جرحٍ جديدٍ في إصبع يدك، ثم يسألك باسماً، وبغرضٍ ما، عن مالِك الفندق الذي على مقربةٍ منكما، ويضحك ضحكةً عائمةً، وبعد ما يُحيّرك في اسم صاحبه، يقول لك هو مُلْكُ الطالب عمران من قرية كوم اللوفي، الذي كان يأتي إلى المدرسة الثانوية بجحش. وفي نهاية الثانوية، اشترى "ميكروفوناً"، وكان يقرأ بالعمامة والطربوش، وكفّ نهائياً عن الهزار معنا، وعلّه لم يكمل الجامعة لأنّه سافر في نهاية السبعينيّات إلى الأردن، وعمل في مسجدٍ جامعٍ إماماً، وأخذ والدَه لقراءة القرآن في إذاعة عمّان، لأنّ والده كان يمتلك صوتاً رخيماً. المقهى مفتوحٌ على الحياة، والماضي، والذكرى، وله شجون تُلمَس من خلاله الأرواح، التي صعدت، لمساً خفيفاً.
يمشي الصديق ويطلب منك أن تتذكّره لأنّ البقيّة قليلة، يمشي ويتباعد وتعود لفضاء المقهى المُتجدّد؛ المقهى يجدّد فضاء نفسه بنفسه من دون حاجةٍ إلى إجازاتٍ أو شاطئ بحر، المقهى حالة سوق لا تجارة فيه ولا كسب سوى لصاحب المقهى، والتجارة الأخرى تتم في خفاء كالسوق السوداء، وهامش ربحها لسهر الليل والتعارف يتم في خفّة، ويسري بلا دبلوماسيةٍ وبلا مُقدّمات. والشيشة هناك تصنع الغمامة، والسائلة تستعير حتّى الطعام في خفّة، والهاتف أيضاً، وتُغيّر في الحمّام ملابسها، وتخرج راضيّة عن البركة، بعد ما أحصت مدخول الظهيرة.
في المقهى، نعرف هل عادت المياه بعد ما انقطعت، وتسأل السائلةُ حَماتها هل اشترت الفلفل، وتضحك وهي تشرب الشاي، وتُعدّل "الإيشارب".
المقهى لونٌ خفيفٌ من ألوان الوجود الحرّ بعد ما نترك منازلنا ومُتطلّباتها ومشكلات الزوجات مع الأهل، أو مع الأولاد، أو مع أنفسهن، أو الجيران. في المقهى أشياء عادية جدّاً وجريئة ومُدهشة، كأن تمشي العصافير على مهلها فوق رخام المقهى في أول الصباح، وتلتقط الفتات، الذي بالكاد تراه، وتتعارك أيضاً مع بعضها من دون أن تعرف أنت السبب، وتطير فجأة من صوت رجل يطلب القهوة سادة، ويصفّق، وصاحب محلّ التصوير القريب يأخذ زجاجتين من الماء البارد، ويمشي يضحك على الحظّ.
تتم الأمور في المقهى بيسر، والكلمات أيضاً تخرُج بيسر، كأن يعرض رجلٌ في اليوم عشرين مرّة علاج شفاء المفاصل ووجع الظهر، وأنّه لم يبقَ معه من المُنتَج، الذي يُعرض في التلفزيون، سوى أربعة، وبعد نصف ساعة، يعود ومعه كرتونة صغيرة أخرى.
المقهى بعيد جدّاً عن البحر، وبعيد جدّاً عن البورصة، عكننة عمّال المقهى مع بعضهم بسبب التأخير فقط، وغالباً يعود الضحك ثانية بعد فنجان القهوة وتسليط المروحة على جمر الفحم، وإذا بالشيخ ياسين ينطلق من دون أن تعرف كيف "ضاع العمر يا رب"، فتجد المقهى وقد تحوّل فجأة إلى ما يشبه الذكر، رغم أنّ هيفاء وهبي في شاشة أخرى في المقهى، هناك، ترقص بملابس شفّافة جدّاً.
هذا الصخب الذي تحتمله الروح الهائمة هرباً من رتابة الحياة وفقرها وضجيجها ومللها ومواتها، وهذا هو الأهمّ، رتابة الحياة نفسها، أو رتابة البيت، أو رتابة العمل، وعتاب الأهل والأقارب، صخب نهرب إليه كي نهرب من ذواتنا أحياناً، فسحة ما لأنفسنا وسط الضغوط، فسحة نطير فيها مثل ذلك العصفور الحيران كي نمسك بأمل فكرة، أو فرح، أو لقاء أو مشهد، أو صحبة مُفتقَدة، جرياً وراء لقمة العيش، أو السفر هنا أو هناك، فسحة نمسك فيها بخيوط حيوات أفلتت منا وخانتنا، أفلتت منا لقلّة حيلتنا ولجهلنا أو لتسرعنا.
غرام ما في المقهى، وأيّ مقهى كان أو سيكون، كي نلعب مع الوقت عن قرب من غير فلسفة أو انتظار منفعة.