ما معنى أن تكون حياديّاً؟

09 نوفمبر 2023

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

حتى، وأنت تمشي في السوق، تبحث عن حزمة بقدونس، لن تكون حياديّا، حتى وأنت في زاوية منعزلة في مقهى تكتب عن أطياف السعادة التي مرّت بك خلال وجودك في هذه الدنيا، حتى وأنت لا تسمع أصوات أولادك بعدما كبروا وصارت لهم مشكلاتهم وأمنياتهم وظروفهم التي لا تعرف تداخلاتها ولا تحب، وفقط تسألهم عن الأحوال وتعود إلى غرفتك، حتى وأنت تقلّب في الكتب القديمة التي لم تفتحها وهربت منك وتدارت، وكأنها لا تحبّك ولا تحبّ ملمس أصابعك، حتى وأنت تمشي ما بين تلك المقابر التي غطّت شيئا من الحقول التي عملت بها كعيّل صغير في دودة جمع القطن، أو وأنت تجني القطن ما بين الحطب، وتُكثر جروحك وأنت على أبواب المدارس كل سنة، حتى وأنت ترى الطائرات فوق مدينةٍ صغيرةٍ تقصفها ليل نهار، وكنت تحبّ جدّا مدرّسا يشبه ممثلي السينما العالمية، كان اسمه محمّد الغزّاوي، وكانت مدرستك الريفية جدا تكثر على بلاطها البراغيث التي كانت تقفز إلى ما تحت فردتي جوْربه، فيحاول ويبتسم في ضيق، وفجأة لم تر ذلك المدرّس أبدا، بعدما ترك البلدة وسكنه وسافر من دون أن تعرف أين ولماذا.

كيف تكون حياديّا وأنت تعيش في وطن من الفقراء الذين يحملون جوازات سفرهم منذ ما يقرب من ستين سنة، ويهربون إلى البلاد كي يبنوا بيوتهم فقط؟ كيف تكون حياديا في أوطانٍ مظلومةٍ منذ أن عرفت الشمس أو حاولت أن تكتب موضوعا في التعبير أو ترسم شجرة أو بيتا أو رجلا أو فتاة بضفيرة أو بغير ضفيرة؟ كيف تكون حياديا وأنت ما زلت تتذكّر الأشجار التي كنت تحبّها، أو حتى النخيل بعدما قطع أغلبه، وتمشي في شوارع تتحدّث عما فقدته خلال سنواتك من ذلك السرور الذي كان يصيبك من أشجار النبق أو النخيل أو المانجو أو العنب، حتى وإن تدارت وراء الأسوار والأسلاك الشائكة والخفراء؟

كيف تكون حياديّا، حتى وأنت في مقهى تتدحرج أحزانه إليك، رغما عنك، حتى من عيون عجوز كبير السن، يقف "بجوار الرمّالة"، ويصب أحزانه في الفنجان مع القهوة؟ كيف تكون حياديا وما زال بعض بقايا الفلاحين الذين كبروا جدا يعرفونك في العزاء من صوتك، حتى بعدما كبرت وتغيّرت ملامحك؟

ما معنى أن تكون حياديّا في عالم يضع جهوده ويده بخسّة ولؤم بارد في يد من يقتل آلاف الأطفال في برود وكأن شيئا لم يكن، بحجة المحافظة على جماليات العالم والحضارة والعلم وقواعد الدولة البهية المباركة؟ ما معنى أن تكون حياديا وأنت ترى رجلا يلفّ عمامة، وبالكاد ينقل خطواته فوق الأرض بصعوبة، حتى يجد كرسيّا في مقهى، ويظل هكذا بالساعات لا يطلب شيئا ولا يكلّم أحدا، حتى يوقف "توك توك" ويمشي، وبعد شهرٍ ينتقل إلى مقهى آخر، وهكذا، كيف يرى هذا الرجل العالم وقسوته، وهل سيكون الموتُ راحة له من قسوة العالم؟

ما معنى أن تكون حياديّا، وأنت ترى العصافير وبعض اليمام يحطّ على بيتك نادر الشجيرات والخضرة، فتتعجّب من محبةٍ تأتيك رغما عنك وبلا ثمن، وكأنها رسالةٌ ما غامضة، كي تسعد؟ ما معنى أن تكون حياديا، وأنت ترى البحر أو مياه النيل، وقد هبطت ثلاثة أمتار على الجرف، فبانت جذور الأشجار فوق بقية ماء النهر، وكأنها عطشانة، وعلت الجزيرة التي كنت تراها دائما غارقةً حتى ارتفعت وجفّت، وكأنها كجبل يغيظ الخضرة التي كانت يوما في ذاكرتك، فتحسّ أن السياسة الكلبة وكلابها تجني حتى على ورد الذاكرة؟ كيف تكونُ حياديّا والأفيال في الغابات تبكي أحيانا، والكتاكيت في لحظات الوحشة والبرد تتساند بصدورها على بعضها؟ رأيتُ والله ذلك بأم عينيّ من كتكوت يسنُد بصدره آخر مريضا خلال ساعةٍ من الليل. وفي الصباح، وجدت المريض قد مات، والآخر يقف حيرانَ في حزنه.

كيف يكون الواحد حياديّا في هذا العالم، والكائنات الصغيرة ليلا تفرح بظهور القمر وسط النجوم، والأرامل يكرهن الحروب، وامرأة من قرية اسمها العوايسة رأت جنازة فوق سيارة نصف نقل، وإذا بها تشير من دون أن تعرف الميّت: "سلّمولنا على الحبايب، وقولوا لهم إحنا جايين والله"؟ سمعتُ ذلك من فمها، وكنت أحاول جاهدا أن أحني رأسي وأنا جالسٌ على حرف السيارة نصف النقل من الوراء، كي لا تطولني أفرع شجرة "دقن الباشا"، بعدما انحنت فروعُها وتدلّت في وسط الطريق.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري