مأزق الجولاني في إدلب
لا يبدو أن الأزمة التي تمر بها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) بقيادة زعيمها أبو محمد الجولاني ستكون عابرة، فالاحتجاجات المستمرّة ضدها منذ أيام آخذةٌ بالتمدّد من بنّش إلى تفتناز وسرمدا وصولاً إلى قرى (وبلدات) ريف حلب الشمالي الخارجة عن مناطق سيطرته، والتي خرج الأهالي فيها بوصفها طرفاً مسانداً لذويهم في إدلب، ودعماً لمطالبهم التي جاءت واضحة بالتغيير وإطلاق سراح المعتقلين، فيما كان أهمّها الشعارات والهتافات المطالبة بعزل قائد الهيئة، أبو محمد الجولاني، الأمر الذي وضع الأخير في مأزقٍ كبيرٍ يبدو هذه المرّة لن يخرج منه من دون تقديم تنازلاتٍ حقيقيةٍ بعد مرحلة انكشافٍ مرّ بها من وعودٍ وأساليب التفاف على السوريين لسنوات مضت، وغير ذلك فإنّ خيار عزله وتحييده عن المشهد سيكون الحل الوحيد أمام كمّ التحوّلات الطارئة على المشهد.
بات الجميع على علمٍ بأنّ الاحتجاجات الراهنة اندلعت على خلفية أزمة ملفّ "العملاء والجواسيس"، والتي فشل الجولاني في احتوائها، لكن ليس بسبب غياب خبرته وتدبيره، أو لعدم إدراكه ما جرى ضدّه، بل لأن الأزمة أخذت أشكالاً مغايرة لما خُطّط لها، وانتقلت إلى صراعٍ داخلي داخل الهيئة "الكتل والتيارات العشائرية"، التي كانت في مجملها تشكّل حوامل للقائد الأوحد.
بدأت الأزمة قبل أشهر، عندما بدأ جهاز الأمن العام (ذراع الهيئة الأمني) بتنفيذ اعتقالات بالجملة للكوادر العسكرية والإعلامية بتهمة التجسّس لمصلحة أطراف دولية، ووصلت الاعتقالات إلى أكثر من 700 شخص، غالبيتهم من كتلة الشرقية التابعة للقيادي أبو ماريا القحطاني، تلاها، بعد فترة وجيزة، اعتقال الأخير مع صديق دربه أبو أحمد زكور (الذراع المالي والاقتصادي) ليتم تخليصه بتدخل المخابرات التركية، وتوفير حماية له وتحييده عن الأنظار.
النهج الذي اتّبعه الجولاني قاده إلى الدخول في مأزقٍ آخر، في اصطدامه مع تيارٍ مناهضٍ من العسكربين الذين رأوا في عمليات الاعتقال فرصةً استغلها الجولاني للتخلّص من مناوئيه
عند هذا المطاف، لم يتوقّع أحد من المراقبين أن ينعكس ذلك على نفوذ تحرير الشام، أو تهميش صورة الجولاني، بسبب القوة المركزية الأمنية التي عمل عليها سنوات، إضافةً إلى وجود حواضن اجتماعية استفاد منها سنواتٍ في تبرير سلوكياته وقراراته الظالمة ضد الأهالي. وفي الوقت نفسه، لم يمنع بعضهم في اعتبار ما جرى فضيحة من العيار الثقيل ضد الهيئة، فالنهج الذي اتّبعه الجولاني قاده إلى الدخول في مأزقٍ آخر، في اصطدامه مع تيارٍ مناهضٍ من العسكربين الذين رأوا في عمليات الاعتقال فرصةً استغلها الجولاني للتخلّص من مناوئيه، خاصة أنّ المعلومات التي سرّبها في تلك الفترة مقرّبون من الهيئة، أفادت بأنّ أبو ماريا القحطاني كان يدبّر لعملية انقلاب ناعم على الجولاني بعد توسيع نفوذه في مناطق ريف حلب، الأمر الذي دفع الجولاني إلى توسيع عمليات الاعتقال ضد تياره من العسكريين بتهمٍ جاهزة جرى تهيئة الأرضية لها أمام المدنيين، بالعمالة للتحالف الدولي والنظام السوري.
زاد كل ما سبق من نقمة العسكريين وذويهم الذين بدأت تصل إليهم شهادات عن حالات تعذيبٍ تُمارَس ضد أبنائهم في سجون الجولاني، ما دفع الأخير إلى الإفراج عن العشرات، وإجراء عمليات احتواء لذوي العسكريين عبر إجراء زياراتٍ وصرف منحٍ مالية وتقديم اعتذارات، لكن ذلك كله لم يُجدِ نفعاً بعد تأكيد المفرج عنهم شهادات علنية ومرئية عن ممارسات تعذيب مورست عليهم داخل السجون من الأمنيين، وما زاد الطين بلة عثور الأهالي على جثة العنصر في "جيش الأحرار"، عبد القادر الحكيم، في إحدى الحفر ليتبين لاحقاً أنها أرض زراعية، حوّلتها هيئة تحرير الشام إلى مقبرة لدفن ضحاياها الذين قتلتهم في سجونها بسبب التعذيب.
يبدو من سلوك هيئة تحرير الشام أنها ماضية في سياسة الاحتواء، لا التصعيد، على عكس ما شهدناه في فترات سابقة
كانت هذه الفضيحة الثانية التي قادت إلى تعاظم الموقف ضد أبو محمد الجولاني، لتسلك التطورات مساراً تصاعدياً متسارعاً، تمثل أولاً: بمطالبة العسكريين الناقمين على الجولاني بجملة مطالب، أهمها إطلاق سراح كل المعتقلين، وفتح تحقيق سريع لمحاسبة الأمنيين وكل من تورّط في عمليات التعذيب، وصولاً إلى مطالبتهم بتشكيل قيادة جديدة وتحييد الجولاني عن المشهد، فيما تبلور المسار الثاني باتّساع رقعة احتجاجات الأهالي في قرى ريف إدلب، الأمر الذي دفع بعض الشرعيين في الهيئة والقيادات إلى إطلاق مبادرات إصلاح وتقديم وعودٍ جديدةٍ نُشرت من معرّفاتهم الرسمية على منصة إكس، منها التحضير لعفو عام بمناسبة دخول شهر رمضان، وأخرى تمحورت بوعود محاسبة المتورّطين في جرائم التعذيب، بالإضافة إلى تحسين الواقع المعيشي والاقتصادي في مناطق سيطرة "تحرير الشام".
بطبيعة الحال، يبدو من سلوك "تحرير الشام" أنها ماضية في سياسة الاحتواء، لا التصعيد، على عكس ما شهدناها في فترات سابقة، وهذا يعني أنّ الجولاني يرغب بالبقاء في صدارة المشهد مع تقديم تنازلات قد تكون متعلّقة بتخفيف صلاحياته، بحسب ما جرى تسريبه من اجتماع جمعه مع عسكريين في الأسبوع الماضي. أما خيار عزله نهائياً فيبقى مرهوناً بمدى قبول أو رفض التيار العسكري المحرّك الأول للاحتجاجات، فهل سيخرُج الجولاني من هذا المنعطف بأقلّ الخسائر؟ على اعتبار أن الأصوات الصاعدة ضدّه، وبحسب مصادر محليّة، لا تريد تغييرات جذرية على كامل المشهد، حرصاً على مصالحها ومنعاً لانزلاق كامل المنطقة في فوضى عارمة، هي في غنى عنها في الوقت الحالي.
على السوريين والنخبة الواعية والقيادة الثورية الإعلامية والسياسية والعسكرية استغلال المتغيّرات الحالية والانطلاق من الخاصّ إلى العام لتوحيد الساحات السورية
إذن، ما سيضع حدّاً لهذه الأزمة هو حدوث توافق بين ما تبقى من تيارات متناحرة داخل الهيئة، والتي أصبحت طرفين بعدما كانت عدّة كتل وتيارات، وهذا إن حصل أيضاً ستكون له تبعات وتداعيات على مستقبل هيئة تحرير الشام، فهي من خلال ما جرى أو سيحدث لاحقاً ستغدو ضعيفة، أو أقلّ قوة على ما كانت عليه، من الناحية الأمنية فقد تحطّم ذراعُها الذي كانت تبطش به في إدلب، فما نراه اليوم من مطالب بإسقاط الجولاني ما كان أحد يتخيّل أن يسمعه أو يراه لولا حدوث زلزال داخل أجنحة الهيئة، بالتالي، ستنتهي مسيرة تكميم الأفواه والاعتقالات العشوائية بحق السوريين في إدلب إلى غير رجعة، في حال جرى تقليم أظافر جهاز الأمن العام التابع للهيئة، وحتى لو آلت الأمور إلى تخفيف صلاحيات الجولاني أو تعيين بديلٍ شكليّ عنه بتوافق كل الأطراف المتصارعة، فإنّ ذلك سيقود أيضاً إلى إنهاء طموحات الجولاني في التوسّع داخل مناطق الجيش الوطني بريف حلب التابع للنفوذ التركي، وربما نشهد تحسّناً طفيفاً في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في إدلب، تعود إيجاباً على السوريين. لكن جذور المشكلة، من خلال هذا السيناريو والذي يعد الأقرب إلى الواقع، ستبقى وسيُبنى عليها لاحقاً من خلال التوافقات المقبلة حتماً، وهذا بحد ذاته يعدّ إشكالاً بالنسبة لقضية السوريين عموماً، فكما الحال أن نظام بشّار الأسد لم يعُد بالإمكان قبوله في مستقبل سورية والسوريين، كذلك الحال بالنسبة لـ"تحرير الشام" المصنّفة على قوائم الإرهاب، لسبب بسيط أنّ النموذجين اتبعا الفكر والنهج نفسيهما، والأساليب نفسها، مع السوريين، وإن كان من اختلاف بينهما هو تساؤل السوريين عمن كان سباقاً في ممارسة سطوته الأمنية وظلمه بحقهم في كل مجالات الحياة. لذا وأمام هذا المشهد وما رأيناها من مناطق سورية ممزّفة ومقسّمة منتفضة ضد سلطات أمر الواقع من شمالها إلى شرقها وجنوبها، فعلى السوريين والنخبة الواعية والقيادة الثورية الإعلامية والسياسية والعسكرية استغلال المتغيّرات الحالية والانطلاق من الخاصّ إلى العام لتوحيد الساحات السورية بمطلب التغيير السياسي، ونبذ كل سلطات الأمر الواقع، وعدم الاكتفاء بالمطالب الآنية المتعلقة بمنطقةٍ دون أخرى، فما يجرى من حراك مستمرٍّ في السويداء للشهر السابع على التوالي ضد نظام الأسد، أوضح أنموذجٍ حيٍّ أمامنا، والذي ينتظر أيادي السوريين لاحتضانه في بقية المحافظات، وتشكيل رافعة له لتشكيل جسم ثوري وطني يمثل ويشمل كل السوريين في كامل الجغرافية السورية وتحت المطالب ذاتها.