معركة كورسك نقطة تحوّل في مسار حرب طويلة
لم يكن أحدٌ، قبل 6 أغسطس/ آب الحالي، يتوقّع أي تطوّر قد يطرأ على مسار الحرب الروسية الأوكرانية المستمرّة منذ فبراير/ شباط 2022، بسبب أنّ أوكرانيا كانت تُعاني مشكلات كثيرة في خطوط الجبهات المشتعلة شرق البلاد. أولها مشكلة قواتها شبه المحاصرة، وفشل هجومها المضادّ الصيف الماضي (2023)، إذْ قاد إلى نتائج عكسية، بعد تقدّم بطيء للقوات الروسية والسيطرة على مزيد من المناطق شمالاً في خاركيف وأفدييفكا (البوابة الرئيسية لإقليم دونباس). وثانيها نقص الذخائر والعتاد العسكري المقدَّمَين من حلف الناتو وتحوّلهما إلى دعم إسرائيل في عدوانها المستمرّ على غزّة منذ 7 أكتوبر (2024) إلى أن عاد في إبريل/ نيسان الماضي بحزمة مساعداتٍ بلغت 61 ملياراً أقرّها مجلس الشيوخ الأميركي، وما راج بعد ذلك عن تقديم طائرات "إف 16" ودبابات ألمانية.
قبل شهر من الهجوم الأوكراني، في كورسك (150 كم عن الحدود الأوكرانية)، وصلت تقارير إلى السلطات الروسية، عن طريق جهاز المخابرات، أكدت تحرّكات واستعدادت أوكرانية، تجري في المناطق الحدودية، لم تأخذها رئاسة الأركان الروسية على محمل الجدّ، أو لم ترد تصديقها وفق صحيفة "نيويورك تايمز" وقد يكون عامل التفوق النفسي الروسي في الفترة الأخيرة، بجبهات الحرب الرئيسية، دفعتها إلى عدم تصديق حدوث أي تطوّر خارج خطوط الجبهات، وهو سبب آخر لعدم تعزيزات الدفاعات الروسية في مناطق الحدود مع كورسك، وغيرها من المناطق خارج خطوط النار، على حساب تركيز قدراتها في إقليم دونيتسك، وجنوباً على طول خط الساحل في خيرسون، وشمالاً نحو خاركيف. كل هذه الحسابات، سقطت لحظة مفاجأة أوكرانيا الجميع، وحتى الداخل الأوكراني، وقطعات كبيرة من جيشها، بهجومها السري المباغت صبيحة السادس من أغسطس/ آب الحالي، وتوغلها إلى عمق 30 إلى 40 كم، وسيطرتها على 85 قرية، و 1150 كيلو متراً مربعاً خلال أسبوع من الهجوم.
دفعت الصدمة الرئيس فلاديمير بوتين إلى تدارك الأمور، ولا سيّما بعد الفيديوهات المذلة التي راجت في وسائل الإعلام لجنوده الذين أسروا بالمئات على يد القوات الأوكرانية، ومشاهد الإجلاء لأكثر من 160 ألف مدني من المناطق الحدودية، في مشهدٍ رأى فيه السوريون جانباً من العدالة الإلهية، بعد استحضارهم لصور الإجلاء بالباصات الخضراء نفسها التي أُجبروا على ركوبها في مدينة حلب.
فيديوهات مذلِّة راجت في وسائل الإعلام لجنودٍ روس أُسروا بالمئات على يدِّ القوّات الأوكرانية
دفع عنصر المفاجأة من أوكرانيا الرئيس بوتين إلى عقد سلسلة اجتماعات مع مجلس الأمن الروسي، وقد ظهر متوتراً في إحداها، وهو يعطي التعليمات لضباطه، ويقوم بتوبيخهم، وتوجيههم في الإسراع إلى طرد المقاتلين الأوكران من أراضيه، في حين ذهب الإعلام الروسي إلى التقليل من حجم المعركة، والخسائر التي لحقت بالقوات الروسية، واصفاً العملية بعملية "إرهابية استفزازية".
جاء الخرق الذي حققته أوكرانيا في توقيت حرج في ما يخصّ بوتين، وبحسب مجلة فورين بوليسي، هو "صاعقة السماء" وتدمير للسردية الروسية في تحقيق الانتصار الخاطف أو السريع. وبدرجة أهم الهجوم كسر خطوطاً حمراء ضمن العقيدة الروسية، من حيث نقل المعركة إلى الداخل الروسي، إلى جانب ظهور قطع عسكرية لحلف الناتو داخل الأراضي الروسية، وهذا وفق بوتين يعد مشاركة الناتو المباشرة في المعركة إلى جانب أوكرانيا، ويستدعي وفق تهديداته السابقة إلى الدخول في معركة كبرى مع الحلف، واستخدام السلاح النووي. المسؤولون الروس بالفعل وجهوا أصابع الاتهام إلى حلف الناتو بوقوفهم وراء هجوم "كورسك"، وهذا ما دفع بنائب رئيس مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، ديمتري ميدفيديف، إلى إطلاق تهديداتٍ مباشرة حينما "توعّد بوصول الدبابات الروسية إلى برلين". لكن هذه الحسابات أو الخيارات قد تبدو مؤجلة للرئيس بوتين، الذي يُواجه جملة من التحديات في مناطق نفوذه سواء في أفريقيا أو سورية، التي باتت على فوهة بركان، بفعل استمرار العدوان على غزة، وتهديدات نتنياهو المتواصلة في إشعال المنطقة. كل هذه الحسابات تدفع بوتين إلى الامتناع عن الانخراط في أي مواجهةٍ شاملةٍ مع أي طرف، بل يمضي حالياً في سياسة الاحتواء، وقد تتعرّض جهوده لحالة من التشتت الصعب، أو نكسة جديدة في الساحة الأوكرانية، إذا لم ينجح في وقت سريع في طرد كامل الجنود الأوكرانين، من المناطق التي سيطروا عليها، فمن شأن ذلك ضرب كامل حساباته الاستراتيجية في شرق أوكرانيا، وبدلاً من سعيه إلى انتزاع كامل مناطق الشرق الأوكراني التي سيطر عليها خلال عامين، قد يضطر إلى سيناريو " الأرض مقابل الأرض، وهو سيناريو أعلنه الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، شرطاً لإحلال السلام. وهنا حريّ بنا التساؤل ما الذي أراده الأخير من هذا الهجوم بالفعل، وما صحة اتهامات المسؤولين الروس بوقوف دول حلف الناتو وراء الهجوم؟
يُرجّح الخبراء أنّه لا روسيا ولا حلف الناتو في وارد الدخول في مواجهة مباشرة، لعدة اعتبارات وأسباب تتعلّق بالتطورات الصاعدة على المشهد الدولي
واقع الأمر الاتهامات الروسية للغرب تبقى اتهامات، فهناك رواية تقول إنّ أوكرانيا استفادت فقط من المعلومات الاستخبارية الغربية عن واقع المناطق الحدودية مع روسيا، ولم تضع الغرب بكامل تفاصيل المعركة، ولا حتى التوقيت، راغبةً بذلك في تعميم عامل الصدمة على حلفائها أيضاً، بوصفه نوعاً من إثبات نفسها أنّها قادرة على تغيير موازين الصراع، وإسقاط سردية تململ بعض الدول الغربية عن جدوى استمرار تقديم المساعدات إليها، من جانب آخر رغبت أوكرانيا في استعادة زمام الأمور، وتخفيف الضغط عن قواتها في جبهات شرق البلاد، وذلك عبر إجبار روسيا على سحب عتاد كبير من قواتها من خطوط التماس، وإرسالهم عاملَ إسنادٍ إلى المناطق الحدودية، وهذا ما حدث بالفعل، لكن ليس بالصورة، والضخامة التي صدّرتها بعض وسائل إعلام عربية، وغربية، في حديثها عن استدعاء بوتين لقوات من "فاغنر" من سورية وأفريقيا، على العكس تماماً المنطق العسكري يستدعي إيصال تعزيزات من أقرب نقطة إلى المنطقة المشتعلة، بذلك تكون خاركيف، وخط جبهة سومي هما الأقرب إلى "كورسك" إلى جانب إسناد من سلاح الجو الروسي، والذي شن غارات جوية عدّة ادعى من خلالها إيقافه زحف تقدّم الأوكران. كل هذه الاجراءات وفق العقيدة الروسية، هي خطوات عاجلة لسد الثغرة التي فتحها الأوكران لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، في حين أن الرد الاستراتيجي لم يأتِ بعد على الأقل من منظور بوتين سيحتاج إلى وقت وتقييم عملي لردّ يشمل حلف الناتو، والذي كان يمنع أوكرانيا سابقاً من نقل المعارك إلى الداخل الروسي، بذلك سيكون ردّ بوتين مع "الناتو" وليس مع أوكرانيا فقط.
يُرجّح الخبراء أنّه لا روسيا ولا حلف الناتو في وارد الدخول في مواجهة مباشرة، لعدة اعتبارات وأسباب تتعلّق بالتطورات الصاعدة على المشهد الدولي، من تصعيد في الشرق الأوسط، وانتخابات الولايات المتحدة، وأزمات الاقتصاد، والطاقة، ولعبة صراع المحاور لكل من المعسكر الشرقي والغربي في دعم أطراف الصراع في الحرب على غزّة. لكن رغم كل ذلك فما جرى في كورسك، ومهما كانت نهاية هذا الهجوم، فإنّه شكّل صفعة قوية في وجه بوتين، وخلط حساباته الاستراتيجية، وسَيُظهِره في موقف ضعيف أمام الرأي المحليّ، والذي طالما أكد لهم أنّ عمليته الخاصة في أوكرانيا تحت السيطرة. في المقابل اكتسبت أوكرانيا جرعة تفاؤل جديدة، ستستفيد منها في عمليات تحشيد وتعاطف دوليّين، لاستمرار تقديم الدعم. الخطر الكبير على روسيا سيكون في حال توسّع هجوم "كورسك" إلى مناطق حدودية أخرى، وانعكس ذلك على انهيار خطوط دفاعاتها في الجبهات الرئيسية بمناطق الدونباس والدونيتسك، وفي إطار أوسع إذا تزامن ذلك مع اشتعال جبهات الشرق الأوسط في الجبهتين السورية واللبنانية، حينها ستكون استراتيجية بوتين في "الوصول إلى المياه الدافئة" مهدّدة بانهيارات متسارعة. لكن تبقى لبوتين حساباته الخاصة والذي ينظر إلى هجوم "كورسك" من منظور أوسع واستراتيجي بوصفه معركة في مسار حرب طويلة في خِضم صراعه مع الغرب، فما زال بين يديه الكثير من الخيارات لاستخدامها في الساحة الأوكرانية، قبل اللجوء إلى خيارات أوسع، والسلاح النووي لن يكون مستبعداً إذا ما اضطر إلى ذلك، وهو الورقة التي لوّح بها في أكثر من مناسبة أمام الغرب.