قوى الشمال السوري إلى الانقسام والحرب
ليس من السهل معرفة أو تكهن أهداف الضامن التركي، من عقده اجتماعاً موسّعاً ومفصليّاً مع كامل قوى الثورة والمعارضة السياسية والعسكرية في مطار غازي عنتاب (3/9/2024). اجتماعٌ ضمّ مسؤولين أتراكا، وعناصر من جهاز الاستخبارات التركية، وممثّلين عن الحكومة السورية المؤقّتة، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، و"هيئة التفاوض"، وقادة العسكر من "القوّة المشتركة" و"التحرير والبناء"، والجبهة الشامية، ومجلس القبائل والعشائر السورية. استمرّ الاجتماع أربع ساعات، وجاء في توقيتٍ أُعيد فيه زخم التطبيع بين أنقرة ودمشق، والمرّة هذه كان بترحيب تركي في دور الوساطة الروسية، استجدّت فيها تصريحات وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، وحديثه عن اهتمام بلاده في تحقيق مصالحة وتقارب بين النظامين، السوري والتركي، سبقتها تصريحاتٌ لوزير الدفاع التركي، يشار غولر، مُحدّداً من خلالها شروط بلاده لتحقيق تقدّمٍ في مسار التطبيع مع النظام السوري، في مسائل مكافحة الإرهاب وملفّ اللاجئين وتقدّم في مسار العملية السياسية السورية وفق قرار مجلس الأمن 2254 (أنّ الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية)، ولا تُنسى تصريحات بشّار الأسد أمام أعضاء مجلس الشعب، وتخفيف نبرته السياسية تجاه أنقرة في التراجع عن شرط انسحاب القوات التركية من الشمال السوري. وبدلاً من الشروط، انتقل الأسد إلى العزف على تحديد مرجعيات المفاوضات ومبادئها، والمطالبة بتعهّدات ربّما شفهيةٍ أو مكتوبةٍ من الطرف التركي عن موضوع الانسحاب مستقبلاً.
أعادت هذه التطوّرات في المشهد السياسي إحياء مسار التطبيع للمرّة الثالثة، بعد وصولها سابقاً إلى طريق مسدودة، أو العودة بها إلى نقطة الصفر، دلّت على ذلك تصريحات من مسؤولين أتراك عن استمرار عقد لقاءات سورية تركية في مستوى وزراء الدفاع والاستخبارات، في الإشارة إلى الحديث مرّةً أخرى عن لقاء في مستوى الرؤساء. معنى ذلك كلّه أنّ ما قيل في الشهر الماضي عن انتهاء مسار التطبيع، أو عرقلته من إيران، لم يكن صحيحاً، وفي الأقلّ طغت عليها مصالحُ البلدين (تركيا وسورية) عبر المضي في تبادل الرسائل، وعقد اللقاءات، لتحقيق تقاربٍ مشتركٍ قائمٍ على المصالح المتبادلة. مع ذلك، سيبقى هذا المسار رهن المتغيّرات والتطوّرات الدولية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، وارتداداتها على سلوك الفاعلين في القضية السورية. في المقابل، جاء اللقاء التركي مع ممثّلي قوى الثورة والمعارضة السورية، في وقتٍ يشهد فيه الشمال السوري حالةَ عدم يقينٍ ولا استقرار، وتفاعلات محلّية، وولادة أحزاب وكيانات سياسية، أهمّها "اعتصام الكرامة"، وعودةَ اصطفافات عسكرية وسياسية، وتراجعَ الأمن في مناطق الجيش الوطني، وانقساماتٍ حادّةً في إدلب بين العلماء والسوريين والناشطين بعد سجالات جرت في الألعاب "البارالمبية" في إدلب، واستمرار المظاهرات في بعض قرى إدلب ضدّ هيئة تحرير الشام، وتعرّض الإعلامين السوريين في الشمال السورية لموجةٍ جديدةٍ من الاعتقالات، وتكميم الأفواه، وتراجع في الحوكمة، وازدياد الفجوة بين القوى الثورية والمحلّية ضدّ الأجسام السورية الرسمية. أمام هذا كلّه جاء الاجتماع التركي لأسبابٍ ودوافعَ تركية قد تكون لترتيب بيت الشمال، وإنهاء حالات الانقسامات بين القوى السياسية والعسكرية والشعبية كلّها، كي يكونوا صفّاً واحداً، وورقةً قويّةً بيد تركيا أمام الاستحقاقات التي تسعى لانتزاعها من النظام السوري، وغلق الأبواب أمام الحلفاء والأعداء في أن يستثأثروا بورقة الشمال (إيران ورسيا والولايات المتّحدة). لكن ما لم يكن في الحسبان أنّ الاجتماع المنعقد شابته انقساماتٌ حادّةٌ بين الحاضرين، وتحديداً بين رئيس الحكومة المؤقّتة، عبد الرحمن مصطفى، وقائد الجبهة الشامية أبو العز شراقب، ومعه قائد جيش الشرقية أبو حاتم شقرا، والقوّة المشتركة المتمثّلة بقائد فرقة السلطان سليمان شاه محمد الجاسم أبو عمشة، وقائد فرقة الحمزة سيف بولاد أبو بكر.
أظهر الحضور أمام الوفد التركي أوراقهم كلّها، التي يعلمها بالطبع، لكن ربّما أراد الحاضرون تسجيل نقاط على بعضهم بحضور الوصي التركي، وتقوية أوراقهم، والهدف طبعاً تجديد جسورة الثقة مع الجانب التركي، وإعادة تقديم أوراق اعتماد، وحجز مقعد في المرحلة الجديدة. وفق المعلومات فإنّ الهدف المُعلَن للاجتماع كان دراسة أوضاع الشمال السوري السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأكّد عبد الرحمن مصطفى، أنّ الاجتماع دعا إلى تعزيز هيكلة الجيش الوطني، وتفعيل دور الحكومة المؤقّتة في الشقَّين الإداري والاقتصادي، وتطوير دائرة التلاحم بين القوى الشعبية والسياسية في الشمال، كما ركّز على أهمّية افتتاح معبر أبو الزندين من الناحية التجارية وإزالة المخاوف الشعبية، من خلال عدم ربطه في الخطوات السياسية، وعزله عن مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق.
وصول بعض القوى العسكرية إلى نقطة اللاعودة مع الحكومة المؤقّتة
وفي الوقت الذي التزم الرئيس هادي البحرة الخطاب الدبلوماسي، واقتصر على عرض مشكلات الشمال السوري ومعاناة المدنيين، استغلّ عبد الرحمن مصطفى الفرصة للانتقام من مناوئيه في هذا الاجتماع، فبعد عرضه أمام الوفد التركي إنجازات حكومته في الشمال، انتقل للطعن في فصيلي التحرير والبناء وفصيل الشرقية، مستهدفاً قاداتهما أبو حاتم شقرا وأبو العزّ سراقب، وذهب للقول بأنّهما قصّرا في فضّ اعتصام الشمال ضدّ حكومته، واتهمهما بالفساد، وسرقة 17 مليون دولار من عائدات معبر باب السلامة، وخصّ هذه التهمة بالجبهة الشامية، كما لم يسلم وفد فصائل العشائر من اتهامات عبد الرحمن مصطفى بحديثه عن تقصيرهم في ردع اعتصامات وحراك إعزاز والباب ضدّ حكومته. الجدير ذكره أنّ فرقتي الحمزات والعمشات اصطفّتا إلى جانب عبد الرحمن مصطفى، وعزفتا على وتره ضدّ فصيلي الشرقية والجبهة الشامية، وهذا ما يُعزّز حالة الانقسام بين جميع القوى المتصدّرة للمشهد السوري، والأهم أنّنأ قد نشهد موجةً جديدةً من غزوات ملوك الطوائف السورية لإعادة تشكيل حالة الاصطفافات، وتكريس السيطرة، وتعزيز الأوراق مع الضامن التركي، وما يعزّز سيناريو الحرب بيان صدر عن الجبهة الشامية بعد الاجتماع بيوم واحد، طالب فيه الائتلاف الوطني السوري بحجب الثقة عن حكومة عبد الرحمن مصطفى، وإحالته إلى القضاء، مستندةً في ذلك إلى أنّ ما قاله في الاجتماع محض افتراء واتهامات كيدية باطلة، وعليه أعلنت تعليق كامل عملها وتعاونها مع الحكومة المؤقّتة.
سيكون بيان الشامية مفصلياً ومنعطفاً جديداً في الشمال السوري، إذ لم يسبق أن شهدنا تصعيداً وشقّاً للصف بين القوى السياسية والعسكرية إلى هذا الحدّ، وهو بما معناه وصول بعض القوى العسكرية إلى نقطة اللاعودة مع الحكومة المؤقّتة، ومن يقف وراءها من فصيلَي الحمزات والعمشات، وهذ سيكون له تداعيات وانعكاسات ربّما ستكون أسرع ممّا نتخيّل، أهمّها عودة المخاوف من السوريين في الشمال السوري، وتهيئة أنفسهم كما جرت عليه العادة لفصلٍ جديد من المعارك بين أخوة السلاح، وهو صراع قديمٌ مُتجدّدٌ لم يعد يَخفَى على أحد، هدفه الاستئثار بالسلطة والمال، والمضي بتسليط السيوف على رقاب الناس، والإمعان في إذلالهم بمسيرة فساد يسعى بعض السياسيين السوريين والعسكريين لاستدامتها من دون أي نهاية.
جاء اجتماع الجانب التركي بقوى المعارضة السورية فيما أُعيد زخم التطبيع بين أنقرة ودمشق، وبترحيب تركي في دور الوساطة الروسية
البيان غير المألوف من قبل الجبهة الشامية يشير إلى ما سبق، وقد اختبر السوريون مثل هذه المواقف والسياقات في كثير من المحطّات طيلة سنوات، الأمر الذي يستدعي أعباء وأوزاراً جديدةً عليهم، لا علاقة لهم بها، وستزيد من معاناتهم، فهل هذا ما سعى إليه الجانب التركي من هذا الاجتماع، أي تقليب الأمور بعضها على بعض بين الأخوة السوريين، وتحقيق تصفية نهائية في الشمال السوري بين من سيكون معها أو ضدّها في مسألة الاستحقاقات، والتطبيع مع النظام السوري في دمشق؟
في واقع الأمر، كلّ شيء وارد، واحتمال التصعيد ووقوع موجة جديدة من الاقتتالات بين فصائل الشمال وارد، وهذا ما يٌعارض ويتناقض مع الهدف المُعلن من الاجتماع، الذي ادّعى فيه عبد الرحمن مصطفى أنّه كان إيجابياً، وسيقود إلى وحدة الصف. صدق الرجل في أنّ المكاسب ستكون لمصالحه الشخصية بعد إعادة تقديم اعتماده أمام الجانب التركي، ولم يصدق في ادّعاءات كثيرة متعلّقة بهيكلية الجيش الوطني، وبتدعيم دور الاقتصاد والإدارة والحوكمة، إذ لا يعنيه ذلك كلّه، بل يٌتاجر بها. المصطفى وكأنّما يسير في نهج ملوك طوائف الأندلس، وإن كان لا يتشبّه بأصغر واحد منهم في الذكاء والفطنة والإنجازات، لكنّه يستغلّ ما بين يديه عند الضامن التركي لتجديد الولاء والتشبّث في السلطة، ناسفاً بذلك تضحيات السوريين كلّها، بل يعمل جاهداً في استغلالها، وتوظيفها في مصالحه الشخصية، من دون أن ينظر مرّة إلى حتيمة التاريخ، ليرى ويتأكّد من نهايته المحتومة كما كلّ فاسد وطاغية طوته الأيام والدول ولو بعد حين.