مصياف... إعلان إسرائيلي لإنهاء نفوذ إيران في سورية
الضربات الإسرائيلية في سورية ولبنان، سنواتٍ، محلَّ جدلٍ ونقاشٍ في الأوساط الإعلامية والبحثية العربية، ولطالما عُقِدت ندواتٌ وفعالياتٌ عن جدوى الغارات الإسرائيلية في سورية على مواقعٍ للنظام السوري، أو على مراكزَ ومقرّاتٍ تابعةٍ لإيران. إذ لم تمنع تلك الضرباتُ كلّها إيرانَ من إرسال ما تريد من عتادٍ وأسلحةٍ لحزب الله، ذراعها في الضاحية الجنوبية، وفي الوقت نفسه، لم تأتِ أُكُلها في انفكاك العلاقة بين النظام وإيران، بل إن ما جرى منذ 2017، مع ارتفاع وتيرة الغارات الإسرائيلية إلى 400 غارة، تعزيز إيران نفوذها في سورية، وإيجاد طرق بديلة من الطريق البرّي الذي يصل إيران بلبنان عبر سورية والعراق، بل بدأت طهران في العامَين الماضيَين تستخدم طرقاً بحريّةً عبر ميناء اللاذقية لتهريب أسلحة، إذا ما تعذّر عليها الطريق البرّي. وفي خطوة مُتقدّمة، أنشأت مراكز تخزين وتصنيع وتطوير لأنواع معينّة من الأسلحة في سورية بريف حمص، وريفَي حماه وحلب ودرعا، وهي في الغالب كانت مقارّ وثكناتٍ عسكريةً تابعة للنظام للسوري، استولت عليها عن طريق الحرس الثوري الإيراني، وحوّلتها مراكزَ تطوير وتصنيع أسلحة متطوّرة كرؤوس للصواريخ البالستية والمُسيَّرات، وقنابل ذكية، وغيرها كثير من الأسلحة التي تتباهى بها إيران في مناسبات الردّ الإعلامي على إسرائيل.
بيد أنّ ذلك كلّه بدأ يسقط أو يتغيّر مع انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزّة، فبدأ الغموض يختفي تدريجياً من فحوى الغارات الإسرائيلية على الأهداف التابعة لإيران في سورية ولبنان، وانتقلت من مستوىً غير مُعلَنٍ إلى مُعلَنٍ ومباشرٍ، ودخلت في مراحلَ سريعة من استهداف مراكزَ وهمية إلى استهداف مراكزَ حيوية واغتيال شخصياتٍ وقنصلياتٍ، وقياداتٍ ومستشارين في العمق التامّ لسورية وللبنان، حتّى وصل الأمر إلى تنفيذ إنزال برّي، للمرّة الأولى، على ما تردد، وهذا إن صحّ، فإنه ترافق مع أعنفِ غارةٍ جويّةٍ إسرائيليةٍ ونوعيةٍ على مركز البحوث العلمية في مصياف بريف حماه، في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري، أدّت إلى تدمير سلسلة مواقعَ مهمّةٍ ممتدَّةٍ بين طريق مصياف ووادي العيون، والمناطق المحيطة بهما، في عملية احتفل بها الإعلام الإسرائيلي بشكل مُبالغٍ فيه، في إشارة إلى أهمّية التعبئة الداخلية الإسرائيلية بعد سلسلة الإخفاقات في حرب غزّة، وتعطيل مسار المفاوضات مع حركة حماس.
ضربةَ مصياف ستكون بدايةً لإنهاء النفوذ العسكري الإيراني ضمن صفقة غير مُعلَنة مع إسرائيل والولايات المتّحدة في المديَين القريب والمتوسّط
أهمّية الضربة الإسرائيلية على مصياف أخيراً ليست في حزمة الأهداف التي تناولتها الرواية الإسرائيلية لتدمير "القدس المُقدَّس لإيران في سورية" أو حتّى لاعتقال عنصرَين أو أربعة من قياديي إيران عن طريق عملية الإنزال (نفت طهران هذا)، ولا حتّى في تعمية النظام السوري وتخاذله أو تورّطه في تقديم إحداثياتٍ لإسرائيل (؟)، ولا روسيا التي لديها خطّ تنسيق قديم ودائم مع بنيامين نتنياهو في هندسة الضربات على نفوذ إيران، بما يتناسب مع مصالحها في سورية، بل الأهمّية تأتي في التوقيت والسياق والظرف الدولي الذي جاءت فيه الضربة، التي ينظر لها على أنّها إعلان صريح لبدء إنهاء النفوذ الإيراني العسكري في سورية بعد ضمان إسرائيل فقدان طهران مقوّمات الردع الاستراتيجي كلّها، والردّ عليها، وهو ما جاءت ترجمته على لسان علي خامنئي أخيراً، في سلسلة تغريدات أكّد فيها على عدوّه الأول والقريب في الجبهة "اليزيدية ضدّ الحسينية"، وصولاً إلى اعترافه بإمكانية التراجع عن الردّ في الشقَّين العسكري والميداني على إسرائيل نوعاً من التكتيك المرحلي. يُضاف إليه أنّ إسرائيل خلال عام من عدوانها على غزّة اختبرت فيها أوراق إيران كلّها، والبداية كانت من سقوط طائرة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، واستهداف أكثر قياديي إيران أهمّية في سورية ولبنان، وقصف قنصليتها في دمشق، والرجل الثاني لذراعها (حزب الله) فؤاد شُكر، وصولاً لاغتيال ضيفها إسماعيل هنيّة، وقياس ذلك كلّه إلى تفاعل ذراعها في لبنان (حزب الله) مع مستويات الردّ والردّ المُضادّ في الجبهة الشمالية مع إسرائيل.
ما سبق من تطوّرات كان الأكثر وضوحاً في تاريخ الصراع أو العلاقة بين إسرائيل وإيران، استغلّت فيه إسرائيل الظرف الدولي، والمتغيّرات التي دخلت المنطقة، لتُوظّفها في معركة مصيرية وجودية أصبحت بالنسبة لحكومة نتنياهو ضمن معادلة جديدة؛ إمّا الفوز بكلّ شيء أو خسارة كلّ شيء دفعةً واحدةً، والمُتتبِّع مسار الحرب في غزّة يلحظ تماماً أنّ نتنياهو يمضي في مسار أحادي، ومتناقض (بعض الشيء) مع تطلّعات الإدارة الأميركية المترهّلة، بل إن نتنياهو يستغلّ الساعات الأخيرة لهذه الإدارة لمنع إحداث تقدّم في الملفّ النووي بين إيران والولايات المتّحدة، ولتعظيم الأعباء في منطقة الشرق الأوسط على كاهل الإدارة الأميركية المقبلة. لأجل ذلك تراه دائماً يُعطّل مسار المفاوضات مع "حماس" تارة عبر ذرائعَ واهيةٍ و شروطٍ جديدةٍ، وتارة أخرى يفتح ملفّ الضفّة الغربية، وأخيراً يحاول وضع إيران قبالة خيارَين؛ إمّا الانجرار إلى حرب شاملة في الساحتَين السورية واللبنانية، أو رضوخها لإنهاء كامل نفوذها العسكري في سورية، وإنهاء كامل مُهدّداتها لأمن إسرائيل، وبذلك، وفق الرؤية الإسرائيلية، تنكفئ إيران إلى الداخل من دون أظفارٍ، بشكل يسمح لإسرائيل، وللإدارة الأميركية المقبلة، برسم جديد للمنطقة، وبقبول إيران بوضع جديد وبشروط مناسبة لصفقة نووية من دون المستوى الخطير على إسرائيل.
حتّى الآن (في الأقلّ)، إيران خامنئي ماضية في هذا الخيار؛ أي التضحية بنفوذها العسكري في سورية أو إيصاله إلى مرحلةَ انعدام الخطر على إسرائيل، في مقابل حفاظها على ذراعها في لبنان، وتجنّبها ضربةً عسكريةً قويةً داخل أراضيها، أو استهداف مفاعلاتها النووية، وإلّا لا يوجد أيُّ تفسير آخرَ لتغريدات خامنئي عن تحويل بوصلة الحرب من إسرائيل إلى الجبهة "اليزيدية"، ولا يوجد أيُّ مبرّر لعدم ردّها على اغتيال إسماعيل هنيّة، أو قنصليتها في دمشق، وأخيراً، على خسارتها أهمّ مركز لتصنيع السلاح في مصياف عملت على تطويره منذ العام 2018، وضمّت له مراكزَ تابعةً له مخصّصة لتصنيع أسلحة كيمائية.
ضربة مصياف إعلان بدء إنهاء النفوذ الإيراني العسكري في سورية بعد ضمان إسرائيل فقدان طهران مقوّمات الردع الاستراتيجي
ذهبت إيران، رغم هذه الخسارة المُهمّة، عبر إعلامها، إلى التقليل من أثرها، بل أنكرت أن يكون المركز تابعاً لها أو يوجد فيه عناصر ومستشارون إيرانيون، وقد بات هذا مفهوماً عند المتابعين في أنّ إيران تتبنّى الإنكار لعدم رغبتها في الردّ على إسرائيل، وهو، في الوقت نفسه، امتثالها للمعادلة المفروضة عليها (الحرب الشاملة أو التضحية في النفوذ)، سيّما أنّ ضربة مصياف جاءت بالتنسيق بين إسرائيل والإدارة الأميركية (وبموافقة الأخيرة)، وفق موقع إكسيوس، الذي أكّد أيضاً أنّ إسرائيل كانت عازمةً في مرَّتَين سابقتَين على استهداف هذا المركز، الذي تراقبه منذ خمسة أعوام. من هنا جاء السؤال الأكثر أهمّيةً: لماذا الآن والمركز كان تحت المراقبة ولم يقصف سابقاً؟... هذا بالضبط كان أكثر ما في الضربة أهمّية لو علمنا أنّها ارتبطت في سياق إقليمي دولي متعلّق بأهداف نتنياهو في مسار عدوانه على غزّة، وتوسيعه نطاق الحرب في ساحاتٍ عدّة. ويبدو أن ما فشل فيه في غزّة يريد انتزاعه في سورية أو لبنان، والجبهتان كلتاهما تخضعان لاعتبارات خاصّة في نظر نتنياهو، مع أهمّية الإشارة إلى التداخل بينهما، فهل ينجح نتيناهو في أن ينتزع من إيران ما عجز عن انتزاعه من الفلسطينيين؟...
كلّ شيء واردٍ. لكن، لا يمكن الجزم به أيضاً، فرغم ما سبق كلّه، من غير السهل أن نسلّم بقبول إيران خسارة نفوذها في سورية ولبنان، وهذا يحتاج، للوقوف عنده، للتفريق بين ما يمكن أن تقبل خسارته، وبين ما لا يمكن، ونحن في الأقلّ نعلم أنّ ما يهمّها بالدرجة الأولى حفاظها على المكتسبات الاقتصادية والسياسية، وما نزعته من النظام السوري من اتّفاقيات في مجالات الطاقة والنفط والزراعة والسياحة الدينية والتعليم والاتصالات والإعمار، إلى جانب 50 مليار دولار، ورقة الابتزاز الأكثر أهمّية، التي تبتزّ بها النظام السوري.
هذه الأهداف كلّها أكثر أهمّية لديها من مليشياتٍ عابرةٍ للحدود، أو مراكزَ عسكرية ومصانع تسليح لديها، منها في لبنان وإيران أكثر بكثير، فإذا كانت هذه هي الصفقة الرابحة، فإنّ ضربةَ مصياف ستكون بدايةً لإنهاء النفوذ العسكري الإيراني ضمن صفقة غير مُعلَنة مع إسرائيل والولايات المتّحدة في المديَين القريب والمتوسّط، وستظهر النتائج بعد أن تضع حرب غزّة أوزارها، ستعقبها مرحلةُ التسويات الإقليمية والصفقات، التي ستكون على حساب شعوب المنطقة ومقدراتها.