عن المزايدة والشامتين والحرب

02 أكتوبر 2024

(محمود زايد)

+ الخط -

في وقتٍ تستمرّ فيه إسرائيل بشنِّ حربٍ جوّيةٍ على معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية، وتتوغّل برّيّاً في لبنان، لا تزال حربٌ أخرى مشتعلة، ساحتها منصّات التواصل. تشهد هذه الحرب اشتباكاً بين ثلاثة أطراف يتبادلون كلماتٍ تعكس مشاعرَ حزنٍ وفرحٍ وشماتةٍ وتخوينٍ، وإطلاقَ أحكامٍ وسباباً.
الطرف الأول سوريّون، يُمثّلون غالبية الشريحة السنّية السورية، وهؤلاء تعرّضوا لمجازرَ بيد حزب الله، الذي شارك في الحرب مع النظام السوري ومع فصائلَ مسلّحةٍ تابعةٍ لإيران في مدن مثل القصير والزبداني والقلمون ودرعا وحلب. لم يتردّد هؤلاء في استغلال الفرصة للتشفّي من حزب الله وإظهار الشماتة بمقتل عناصره في الغارات الإسرائيلية، معتبرين أنّ هذه الغارات انتقامٌ من جرائم حزب الله ضدّهم، خاصّةً مع ظهور مقاطع فيديو لعناصر الحزب يسخرون من ضحاياهم السوريين، ويطلقون وعوداً بالقضاء على آخر سنّيٍّ في سورية. في المقابل، ردّ أنصار حزب الله في لبنان بتهديداتٍ ووعودٍ بالانتقام. أمّا الطرف الثالث، فيتألف من نُخَبٍ عربية وسورية وإسلامية وسياسية، رفضت هذه المعركة الإلكترونية. بعضهم اعتبر أنّ شماتة السوريين خيانةٌ للدماء اللبنانية، في حين ذهب بعض آخر إلى حدّ اتهام السوريين بالتعاطف مع الصهيونية.

موقف السوريين مُعقَّد، يحمل عداءً مزدوجاً لكلّ من حزب الله ومليشيات إيران وإسرائيل

عمّقت هذه الحرب الإلكترونية الانقسام بين الأطراف، وأظهرت السلوكيات مدى اختلاف مستويات الوعي لدى كلّ طرفٍ، في ظلّ الحروب المفتوحة في غزّة ولبنان وسورية. يحمل الطرفان المتصارعان مشروعَين خطيرَين على شعوب المنطقة، ولكنّ الأخطر حالة التشابك والتعقيد بين هذه الأطراف كلّها، وحالة الغليان الشعبية التي يصعب فهمها من دون النظر إلى تراكمات الأحداث السابقة. شهدنا على سبيل المثال انقساماً بين السوريين أنفسهم، سواء بين النُخَب أو العامّة، بشأن الحرب الجارية في لبنان. أيّد بعضهم الوقوف مع لبنان ضدّ إسرائيل، بدافع مشروع الأمة وأولويات العداء، إذ يرون أنّ إسرائيل هي العدوّ الأول. بينما أيّد آخرون الضربات على حزب الله من دون النظر إلى الجهة المُنفِّذة، سواء كانت إسرائيل أو الولايات المتّحدة، فرحّبوا بأيّ جهة تضرب الفصائل التابعة لإيران، تماماً كما رحبّوا سابقاً بالضربات الأميركية على أذرع إيران في العراق وسورية.
لكنّ الأمر هذه المرة مُختلف، لأنّ اندلاع الحرب في لبنان تزامن مع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزّة، إذ دُمّرت 75% من مساحة القطاع، وقُتِل ربع سكّانه من المدنيين، وهُجِّر الباقون. هذه المجازر، التي ارتكبها نتنياهو في غزّة كانت الأعنف والأكثر همجيةً في العصر الحديث، ما زاد من اشتعال الحرب الإلكترونية، وشحْن المشاعر الحاقدة بين الأطراف. قد لا يكون من المناسب استخدام مصطلح "الشماتة" في سياق الحروب والسياسة، لأنّ الشماتة تُعبّر عن شعور إنساني فطري وآني، أيّ أنّه شعور نسبي قد يتغيّر. على سبيل المثال، إذا انتصرت إسرائيل في لبنان، ثمّ فتحت جبهة جديدة ضدّ دولة عربية خالية من أذرع إيران، ونجحت هذه الدولة في توجيه ضربات قوية لإسرائيل، فإنّ مشاعر الشماتة ستتحوّل لصالح تلك الدولة. من هذا الافتراض يتّضح أنّه لا يمكن لوم الضحية على موقفها أو فرض شروط عليها، فمشاعر الضحيّة تجاه عدوها طبيعية، ومن حقّها التعبير عنها.
يقودنا هذا الطرح إلى محاولة فهم الانقسام الحالي في المواقف الشعبية تجاه الحرب بين حزب الله وإسرائيل. من المهمّ التأكيد أنّ هذه الحرب ليست بين لبنان وإسرائيل، بل هي حرب حزب مُسلّح يخدم مشروع إيران في المنطقة ضدّ إسرائيل. المشروع الإيراني، الذي يسعى إلى فرض هيمنة طائفية في المنطقة لا يقل خطورةً عن مشروع إسرائيل الساعي إلى تقسيم المنطقة بين "كانتونات" متناحرةٍ على أسس عرقية وطائفية، تحقيقاً لما يُعرَف بمشروع "إسرائيل الكبرى". يشكّل المشروعان تهديداً خطيراً على دول المنطقة، وقد بدأ تنفيذهما فعلياً منذ عام 2001، عندما تبنّت الولايات المتّحدة مصطلح "الحرب على الإرهاب" واحتلّت العراق، ما سمح لإيران بالتمدّد في دولٍ مثل سورية ولبنان واليمن. كان هذا التمدّد الإيراني كارثياً على المُكوِّن السنّي في المنطقة، وخاصّة في سورية، حيث شاركت إيران وحزب الله في تدمير المجتمعات السنّية. في المُقابل، استمرّت إسرائيل في قتل المدنيين في غزّة، ممّا أثار استنكاراً شعبياً واسعاً، وخاصّة في الشمال السوري، حيث خرجت مظاهرات تُندّد بالعدوان الإسرائيلي وتُطالب بوقف المجازر ضدّ المدنيين. ومع ذلك، المصالح الإسرائيلية في غزّة لم تتحقّق بالكامل، ما دفع نتنياهو إلى تحويل الحرب نحو جنوب لبنان، مُستغلّاً تورّط حزب الله في القتال.

هل من المنطقي أن يقف أيُّ عاقل مع إسرائيل وهي تقتل المدنيين في لبنان وسورية؟

شنّت إسرائيل حرباً شرسة في لبنان لم تفرّق فيها بين المدنيين والعسكريين. حتّى اللاجئون السوريون قُتلوا في هذه الغارات، فهل من المنطقي أن يقف أيُّ عاقل مع إسرائيل وهي تقتل المدنيين في لبنان وسورية؟ أمّا فيما يخص العسكريين، فذلك شأنٌ آخر بين الأطراف المتقاتلة. ولكن بالنسبة إلى السوريين، الذين تعرّضوا لجرائمَ بيد كلٍّ من إسرائيل وحزب الله وإيران، فمن الطبيعي أن يتّخذوا موقفاً معادياً لجميع هذه الأطراف. موقف السوريين في هذا الصدد مُعقَّد، يحمل في طيّاته عداءً مزدوجاً لكلّ من حزب الله ومليشيات إيران، وكذلك لإسرائيل. الطرفان كلاهما يمثّلان خطراً كبيراً على المنطقة. ولهذا السبب رأينا انتشار وسم "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين" في مواقع التواصل. لا يمكن لأحد أن يُزايد على السوريين في هذا، ولا يمكن أن يُطلب ممّن فقدوا أحباءهم بيد حزب الله أن يقفوا على الحياد أو أن ينسوا أوجاعهم مُؤقّتاً للوقوف مع الحزب في حربه ضدّ إسرائيل. الحديث هنا عن موقف العقلاء، الذين يتّخذون موقفاً موزوناً بين الأطراف، وليس عن الذين غالوا في مواقفهم إلى حدّ السُباب والتخوين، فهؤلاء خارج إطار النقاش.