استهداف جسر القرم وما بعده؟
بدأت طموحات القيصر الروسي في التلاشي، مع استهداف الرمز الأهم له في شبه جزيرة القرم. جسر كريتش الاستراتيجي يعد أهم إنجاز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ ضمّه شبه جزيرة القرم 2014. حقّق حينها أحد أهم طموحاته القيصرية بعبوره الجسر بسيارته الخاصة في 2018، وعدّ الشعب الروسي هذا الإنجاز بمثابة فخر للأمة الروسية. ومع استهدافه اليوم على خلفية توسّع الصراع الروسي الأوكراني المدعوم غربياً، سينتقل الصراع إلى محطّة مغايرة عن التي شهدناها طوال سبعة أشهر مضت، بسبب أنّ جسر القرم يعد رسالة مباشرة إلى الرئيس بوتين شخصياً، وهو من أرسل رسالة مباشرة إلى حكومة كييف في الأسابيع الأولى من بدء حملته العسكرية في أوكرانيا، مفادها بأنّ أي محاولةٍ لاستهدافه سيتّرتب عليها عقاب وردّ خاص، وهو ما أعيد تفسيره من خلال تصريحات مسؤول السياسة الدولية لمجلس الدوما بعد مضي ساعاتٍ على واقعة تفجير الجسر، إذ اعتبر هذا العمل التخريبي بمثابة إعلان حرب، مضيفاً "أنّ الرد ليس بالضرورة أن يأتي في الجبهة"؟ في إشارة إلى تحديد بنك أهداف نوعية وعمليات أمنيّة أبعد من النطاق الأوكراني، وهذا يعني أن روسيا ستترّيث كثيراً في ردّها إلى ما بعد انتهاء التحقيقات التي أوعز بها الرئيس بوتين بلجنة عمل خاصة، وهذا بحد ذاته سيفيد موسكو قادماً في بناء نهج التعاطي، إذا ما أثبت أن أيادي غربية لها صلة بعملية التفجير، أو أنّ خللاً أمنياً قد حدَث لقواته بعملية اختراق مدبّرة استطاعت النفاذ لتنفيذ أعمال التخريب، وهذا ما يعكس تفسير رواية الرئاسة الأوكرانية التي أظهرت موقفاً موارباً حول العملية، ففي الساعات الأولى من يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري صدّر مستشار الرئيس الأوكراني موقفاً ألمح فيه إلى تبنّي بلاده عملية التفجير، بقوله: "هي البداية فقط وسندمّر كل شيء غير شرعي"، عقبها تصريح من وزارة الدفاع الأوكرانية تعمدّت فيه خلط الأوراق، حينما قالت إنّ واقعة جسر كريتش هي نتاج صراع داخلي بين الأجهزة الأمنية الاستخبارية الروسية مع الجيش ودوائر صُنع القرار. وفي الوقت نفسه، صرّح مسؤول حكومي أوكراني (لم يتم ذكر اسمه) لصحيفة واشنطن بوست أنّ "الخدمات الخاصة الأوكرانية أو القوات الخاصة هي من قامت بالعملية". ويتّضح من الرواية الأوكرانية المتضاربة تعمّد مقصود لخلط الأوراق أمام روسيا، لتعقيد كشف ملابسات العملية من جهة، ووضعها في مشهدٍ ضبابي أمام الرئيس الروسي بوتين لزيادة حالة الهلع والتوتر مع دائرته الخاصة، ما قد يسمح بزيادة الهوّة والانقسامات في إطار الحرب النفسية أو "حروب الصدمة"، والتي تضع المتلقي في حالة توتر دائم لإيقاعه في خطأ تقييم شامل للحدث المعني؟
جاء تفجير جسر كريتش على خلفية انحسار وانكسار للقوات الروسية في ليمان وخيرسون، وتقدّم ملحوظ للقوات الأوكرانية في لوغانسك ودونيتسك
بطبيعة الحال، يعدّ تفجير جسر القرم سابقةً وحدثاً مفصلياً في سياق الحرب الجارية، وضربة وخسارة معنوية وسياسية، قبل أن تكون اقتصادية لروسيا، والسياقات والدلالات التي جاءت بها مهمة جداً، لا سيما بعد مضي أيام قليلة على خطاب بوتين الشهير في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، وإعلانه خطاب النصر بضمّه الأقاليم الأربعة الذي عدّه انتصاراً للأمة الروسية، داعياً الغرب وأوكرانيا إلى العودة إلى المفاوضات والمثول أمام شروط روسيا، إذا ما أرادوا إيقاف الحرب. لكن المفاجأة التي لم يكن يتوقعها بوتين إصرار الغرب وأوكرانيا على استمرارهما في الحرب إلى النهاية، من دون الإذعان له ولتهديداته النووية على الأقل حتى هذا اللحظة. الجدير ذكره أنّ خطاب بوتين جاء كمحاولة ومراوغة لانتزاع أهدافه سياسياً ما عجز عن تحقيقه عسكرياً، والمُتتبّع لتطورات الحرب سيقرأ جيداً أنّ بوتين سعى إلى قلب معادلة الصراع على الأرض بعد تعرّض قواته في خاركيف وإيزيوم لخسائر كبيرة، قادت إلى كشف فضائح قواته من سوء إدارة العمليات وفساد ضباطه.
كذلك جاء تفجير جسر كريتش على خلفية انحسار وانكسار للقوات الروسية في ليمان وخيرسون، وتقدّم ملحوظ للقوات الأوكرانية في لوغانسك ودونيتسك، إلى جانب حدوث تفجيراتٍ في خطوط الغاز الروسية نورد ستريم 1 و2. وسياسياً، جاء في ظل سعي غربي أوروبي إلى زيادة عزلة روسيا دولياً وفرض حزمة عقوبات جديدة، وزيادة الدعم لحكومة كييف، عبر إعلان صندوق شهري لمنح مالية كان قد أعلن عنها الرئيس الفرنسي في قمة براغ، والتي حضرتها 44 دولة أوروبية.
يثبت جميع ما سبق فرضية غير نهائية مفادُها بدء تلاشي أحلام بوتين وتآكل شرعيته بعد الخسارات المتتالية التي مُني بها من كييف إلى إغراق الطراد موسكوفا، وصولاً إلى فشل عملياته العسكرية على الأرض. مع ذلك، كل ما ذُكر في كفّة وتفجير جسر القرم في كفّة أخرى، فهو شريان روسيا الأهم عبر القرم، ومنه تصل المعدّات اللازمة العسكرية، وإلى الجبهات المشتعلة في الجنوب خيرسون ومنطقة آزوف، وتهديده اليوم وعرقلة العمل به إلى 23 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تحت ذريعة تمديد حالة الطوارئ للتهديدات الإرهابية في القرم كما جاء في صحيفة ريا نوفوستي يعني مزيداً من الخسائر لروسيا، وتوجيه أنظار حكومة كييف نحو مدينة ميليتوبول الاستراتيجية هدفاً ثانياً، على اعتبار أنها الوحيدة حالياً التي ستمر منها مركبات ومعدّات إلى جزيرة القرم.
سيناريوهات التفجير تبدو معقّدة وشائكة، وتحتاج لبعض الوقت، لتقييمٍ شاملٍ لما جرى، فمن المفترض أن الجسر له حماية وتأمين خاص به لمنع أي مهددات
لأجل هذه الأسباب كلها، لن تسكت روسيا عن هذه الواقعة، والتي أصابت ضمير بوتين شخصياً وإرثه. وحتى اللحظة، لم يصدُر موقف وتصريح معلن منه عن حادثة جسر القرم، ولم يتم توجيه اتهام رسمي وكامل لأوكرانيا، بل ظهر تريّث كبير هذه المرّة، للنظر في مسبّبات التفجير، ذلك لأنّ سيناريوهات التفجير تبدو معقّدة وشائكة، وتحتاج لبعض الوقت، لتقييمٍ شاملٍ لما جرى، فمن المفترض أن الجسر له حماية وتأمين خاص به لمنع أي مهددات، وإن ثَبُت تفجير الجسر عبر شاحنة، فإنّ عمليات اختراقٍ نوعية حدثت جرى التخطيط والتدبير لها بتعاون مع شخصياتٍ من داخل القرم، فكيف لشاحنةٍ أن تخرج من الطرف الروسي، وتنفجر في منتصف الجسر في عملٍ كأنه بتنفيذ انتحاري، أو تفجير عن بعد لشاحنةٍ محمّلة بمتفجراتٍ عبرت من دون كشفها. وفي الحالتين، حدث اختراق أمني لمنظومة جسر القرم الأمنية.
من هذه الفرضيات، ستكون عمليات الرد الروسي مرهونةً بما سيصدُر عن تقييم شامل للجنة العمل الخاصة التي استلمت مهمة التحقيق في ملابسات الحادثة. وفي حال أثبتت روسيا تورّط أوكرانيا في العملية سيكون أول خياراتها استخدام القوة المفرطة في استهداف البنى التحتية والجسور والمنشآت الأوكرانية بضرباتٍ بعيدة المدى. ومن خلال تعين الجنرال الجديد، سيرغي سورويفكي، قائداً للعملية الروسية في أوكرانيا، على الأرجح أنّ سياسة الأرض المحروقة التي أشرف عليها الجنرال الجديد في الشيشان وسورية سوف يتم تطبيقها في المناطق الروسية الجديدة التي ضمّتها بغرض تحقيق حسم سريع للمعركة، وقد لا تتوانى عن استخدام أسلحةٍ محرّمة دولية، لتحقيق ذلك، وربما أسلحة نووية تكتيكية، وهو السيناريو الذي سيفتح أبواب جهنم على بوتين من حلف الناتو ودول أوروبا، من خلال تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى لتدمير القوات الروسية ومعدّاتها، وإغراق كامل للأسطول الروسي في البحر الأسود.
في جميع الأحوال، ستكون نتائج ردود روسيا على تفجير جسر القرم عكسيةً ومدمرةً على الرئيس بوتين، لسبب بسيط، أنّ نكساته وخساراته السابقة طوال سبعة أشهر أفقدته شرعيته داخل روسيا. وخارجياً، انتهى صيته ورصيده على الساحة الدولية.