أوروبا وبوتين وسلاح الغاز
لم يكن قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إيقافه ضخ الغاز للقارّة الأوروبية عبر خط نورد ستريم 1، عامل صدمة للقارّة العجوز؛ إذ جاء القرار ردّاً على إعلان مجموعة دول السبع تحديد سقف تسعيرة للنفط الروسي، بُغية كبح موسكو الاستفادة من عائدات النفط، في تغذية آلتها العسكرية ضد أوكرانيا. كما سبق القرار اتخاد دول أوروبية كألمانيا وفرنسا عدة إجراءات عاجلة لتأمين البدائل اللازمة لاجتياز مأزق الشتاء المقبل، حيث أعلنت برلين عن إتمام ملء خزاناتها الاحتياطية من الغاز المسال بنسبة 85%، وسنّت حزم مساعدات للمواطنين بقيمة 40 مليار دولار، فضلاً عن إعلانها سابقاً عن سياسة تقنين للغار المنزلي بنسبة 15%. وقد أعلنت فرنسا عن تشغيل كامل مفاعلاتها النووية في الشتاء، في خطوة عزاها بعضهم إلى أنها باتت خياراً وحيداً أمام الرئيس إيمانويل ماكرون بعد عودته فارغ اليدين من زيارته أخيرا إلى الجزائر. بقية الدول كإيطاليا ودول شرق أوروبا تحاول إتمام صفقات وتأمين بدائل غازية مع كل من النرويج وأذربيجان، عبر تركيا إلى جانب دراسة مشاريع متعلّقة في الاعتماد على الطاقة الكهرومائية والنووية، والتي تحتاج فترات طويلة. كل هذه الإجراءات تعد خطواتٍ عاجلةً وسريعة لإدراك دول أوروبا المسبق أنّ بوتين سيستمر في عسكرة الغاز والطاقة ضدهم في مضمار الحرب المستعرة بين المعسكرين، الغربي والشرقي. وقد اعتبر المستشار الألماني، شولتز، أنّ خطوة بوتين أخيرا تؤكد أن روسيا لم تعد طرفاً وشريكاً موثوقاً في مجالي الأمن والطاقة. في المقابل، لم يُشكّل قرار أوروبا في تحديد سقف لشراء النفط الروسي، مصدر إزعاجٍ كبيرٍ لبوتين، فهو أساساً يبيع نفطه للصين وباكستان والهند، بسعر زهيد من سعره العالمي، بهدف التفافه على العقوبات الغربية، واستمرار صموده، ومعاقبة دول أوروبا على نهجها الواضح في مسايرة المعسكر الغربي ضد روسيا.
وعلى الرغم من أن بوتين حذّر مسبقاً من خطوة تحديد سقف لنفطه، إلّا أنه بدا أنه مستعدٌ لها، وفي الوقت نفسه، رغب في الحفاظ على شعرة معاوية مع الأوروبيين، من خلال تبريره إيقاف خط الغاز عبر نورد ستريم 1 بذريعة استمرار إجراء الصيانة للتوربيتات المشغلة للمضخمات، وأوعز لشركة غاز بروم تصديق سرديته، عبر تسريب الأخيرة صورا تظهر الأعطال في أحد التوربيتات. مع ذلك، لم تمرّ هذه السردية على دول الاتحاد، رغم فهمهم المعنى الذي جاءت فيه؟
عند هذا المنعطف، يكون بوتين قد استعمل آخر أوراقه المتعلّقة بسلاح الغاز ضد أوروبا، ولم يبقَ لديه سوى آلته العسكرية وسلاحه النووي الظاهرة مفاعليه في محطة زابوريجيا، والتي فصلتها روسيا عن آخر خط مغذّ للكهرباء الأوكرانية، ودخلت حالياً في طور التسييس، بعد دخول تركيا على الخط وعرض الوساطة لحلحلة هذا الملف، إلى جانب بعثة الطاقة النووية المستاءة نوعاً ما من إجراءات بوتين في التعامل معها. اللافت أنّ قرار مجموعة السبع تمّت دراسته منذ إبريل/ نيسان الماضي. وعلى الرغم من حدوث توافق عليه، إلّا أنه يحتاج فترة لتحديد السعر المخصّص لشراء النفط الروسي. وحسب بعض المصادر، قد يتراوح بين 40 إلى 60 دولارا للبرميل الواحد، وهي أسعار تبدو رخيصة مقارنة مع أسعار النفط العالمي، والذي وصل سعر البرميل إلى 120 دولارا، قبل أن يعاود الانخفاض إلى 95 لخام "برنت".
لم يُشكّل قرار أوروبا في تحديد سقف لشراء النفط الروسي مصدر إزعاجٍ كبيرٍ لبوتين، فهو أساساً يبيع نفطه للصين وباكستان والهند، بسعر زهيد من سعره العالمي
روسيا تعد ثالث أكبر منتج للنفط الخام بعد الولايات المتحدة والسعودية، بإنتاج يومي يصل إلى 11 مليون برميل يومياً، خمسة ملايين برميل تصدّرها يومياً. بالتالي، إذا ما نفذت دول السبع قرارها عبر تحديد سعر لا يتجاوز 60 دولارا، ستكون روسيا أمام مأزق حقيقي وخياراتها ستكون محدودة، فرغم إعطاءها الصين والهند عروض أسعار رخيصة لشراء النفط والغاز، ذلك لأنّها استفادت أصلاً من عائدات كبيرة بسبب ارتفاع أسعار النفط عالميا، لكن القرار الجديد من قبل دول السبع ستكون مفاعليه قوية، فعوضاً عن كونه مخصّصا لكبح واردات الربح الأساسية لروسيا، هو أيضاً ضربة لقطاع النفط الروسي.
بالنظر إلى الجزء الثاني من القرار، المتضمن، وضع حظر على تأمين شحنات النفط الخام الروسي للأسواق العالمية، وهذه الجزئية نقطة قوة بأيدي دول السبع، التي تمتلك قرابة 90% من تأمين شركات السفن للملاحة البحرية. معنى ذلك أنّ موسكو قد لا تستطيع نقل نفطها للأسواق العالمية، عبر السفن البحرية التابعة لكبرى الشركات الأوروبية، وإذا ما حاولت شركات الالتفاف على القانون ستكون الشركة التابعة لها معرّضة لعقوبات وإزالتها من التأمين العالمي. هذه الصورة المتكاملة التي يسعى الغرب إلى إتمام فصولها مؤلفة من قسمين، وضع فيتو مزدوج على أنابيب بوتين روسيا الغازية من طرف، وشحنات النفط الروسي التي يتم نقلها بسفن بحرية. ويجب أن لا ننسى أن حملته العسكرية دخلت في حالة فتور بعد شن القوات الأوكرانية هجوما معاكسا على منطقة خيرسون بهدف استعادتها ومن ثم التوجّه نحو فك الحصار عن محطة زابوريجيا.
بمواجهة أزمة الغاز، يبقى الرهان الأوروبي على كيفية تحقيق مواءمة بين السياسات الداخلية والخارجية
على الطرف الآخر، لن تمر أوروبا بشكل سلس من مأزق الشتاء القادم، فرغم كل الإجراءات آنفة الذكر عن تحوّطات كبيرة وعاجلة، يبقى الرهان على ظهور نكسات ومتغيرات جديدة، منها، على سبيل الذكر، ظهور موجات احتجاجات داخلية ضد بعض الحكومات الرافضة أساساً توجهات الحكومة، فضلاً عن حدوث هزّات اجتماعية واقتصادية لدى الطبقات الوسطى، والتي قد لا تستطيع التحمّل كثيراً في وجه موجات الغلاء والتضخم وارتفاع أسعار السلع، بالتالي، سيبقى الرهان الأوروبي على كيفية تحقيق مواءمة بين السياسات الداخلية والخارجية.
وما بين دول أوروبا وروسيا ومن خلفهم المايسترو الأميركي، تبدو الصورة اليوم أوضح من أي وقت مضى، عنوانها الوحيد حالياً دخول الجميع في معارك استنزاف، وعليه يمكن اختصار المشهد ببعض النقاط سريعاً كما يلي:
أولاً: بعد قطع روسيا فعلياً الغاز عن خمس دول أوروبية، إلى جانب إعلانها توقيف توريد الغاز إلى الدول التي أعلنت تحديد سقف لأسعار البترول الروسي، وما تلاه من ردود أفعال، ظهرت حالة انقسام وتخبّط غير مسبوقة، بين الدول الأوروبية، بعد إعلان بوتين اغلاق خط نورد ستريم 1 إلى إشعارٍ آخر.
إذا استطاعت كبرى الدول الأوروبية الخروج من مأزق موضوع الطاقة والغاز، سيكون بوتين الخاسر الأكبر
ثانياً: مسألة إيجاد البدائل كألمانيا التي أعلنت عن تحييد 30% من الطاقة النظيفة، والاعتماد على الطاقة النووية والفحم، وفرنسا عن تشغيل مفاعلاتها النووية، وإيطاليا وغيرها من الدول التي بدأت تذهب نحو تأمين بدائل من الدول المنتجة. ذلك كله تحديات جيواقتصادية وسياسية أمام تلك الدول، ورغم صعوبة التكهن بنجاح استراتيجيات تأمين البدائل أو فشلها، إلا أنها تبدو مؤلمة على قطاعات الصناعات والمعامل والأسر الأوروبية، كما أنّ نجاح الاعتماد على الطاقة النووية يحتاج فترات أبعد من الشتاء المقبل، الأمر الذي سيقود إلى انكماش اقتصاد وناتج محليّ ومنه إلى ركود عالمي.
ثالثاً: أثبت بوتين في قراره أخيرا نياته في العمل على تحقيق انقسام الخط الأوروبي داخلياً، بعدما فشل في انزياحهم عن المعسكر الغربي ومعاقبتهم على موقفهم بخصوص أوكرانيا.
رابعاً: إذا ما استطاعت كبرى الدول الأوروبية الخروج من المأزق الحالي في موضوع الطاقة والغاز، سيكون بوتين على المدى البعيد الخاسر الأكبر، بسبب أنه في المدى القريب يستند على وجود بدائل روسية كالهند والصين وإيران.
خامساً: أظهرت أزمة أوكرانيا أن خطي نورد ستريم 1 و2 خطآن استراتيجيان لأنهما كبّلا دول أوروبا في اعتمادها على روسيا فقط دونما البحث عن تنويع موارد وبدائل أضحت اليوم ضرورية للخروج من المأزق الحالي. كذلك الولايات المتحدة هي المسبّب الأول لكل ما حدث من خسائر وتداعيات على الساحة الدولية، لسبب بسيط أنها اختارت الحرب الاقتصادية مع روسيا خيارا بديلا عن الحرب العالمية الثالثة المباشرة، والتي جعلت دول القارّة الأوروبية في أوائل الخاسرين مع تضحية علنية وشبه مؤكدة في أوكرانيا.