أطياف نيتشه وأشباحه .. والحرب

07 ابريل 2022
+ الخط -

لم يصنع نيتشه الأسلحة ولا البارود، ولم يموّل الجيوش، ولم يدخل أوكرانيا كي يحرق القمح أو شجيرات عبّاد الشمس، ولا دلق لبن الأطفال تحت عجلات المدرّعات، ولا تباهى بالماء المقدّس أو لامس أطنان الذهب في كنائس الشرق، ولا وضع يده على الصليب، ولا صبّ زيت الشرق أبداً على النار، ولا حرق شجر الزيتون في سيناء أو صنع أكبر مسجد وأكبر سارية علم وأكبر نجفةٍ مدلاة في جسم خمسين عجلاً من الحديد والأسياخ والكهارب، وظل المسجد مغلقاً، إلّا في صلاة المكائد والفتن. نيتشه كتب، وأصحاب الحيل مشوا في أزقة التأويلات فقط، ووجد نيتشه صدراً رحباً في أيّ تأويلٍ من النخبة العربية.

نيتشه لم يأمر الأوليغارشيا بشراء نوادي كرة القدم في أوروبا، ولا سمّم المعارضين لفلسفته، ولم يقف بيخته في عرض البحر وفي يده حقيبة النووي أو ملكية اليخوت وأطنان الذهب، بعدما جاء من ظهر أب فقير، وقد صفّقت له النخبة العربية في المنافي، لأنّهم فقط ضد الرأسمالية أو الإمبريالية أو أميركا، فالرأسمال مكروهٌ، خصوصاً إن تحوّل إلى سيطرة على مقدّرات فقراء العالم، فما بالك بمن يريد قتل العالم نفسه، لأنّه لم يأتِ وفقا لاستراتيجيته الأمنية.

كان نيتشه يحسّ بنفسه كسوبرمان أو سيد فوق الورق، ولا يخرُج من نطاق الورق إلى الحقل، أو المصنع، أو السلاح، أو النووي. لماذا صار صنّاع الكتب في الصفوف الأولى لصنّاع الكذب والقسوة والعنف في هذا القرن؟ هل بات الدجل السياسي أداة نافعة للانتقام في ظل نخبة انتهى عملها مع الفقراء والمساكين؟ فانطلقوا كبطانة للحّكام الذين لا يردعهم رادع عن الانقلاب أو القتل أو سنّ السواطير للمعارضين، ولم يجد بوتين سوى "سلطات الشرق مرقا لذيذا لمطبخه الدموي القادم"، هل كان هذا كله مقدمةً لما يخطط له هو في تقطيع أوكرانيا وابتلاعها جزءاً وراء جزء، بعد أن يتحوّل العنف إلى منهج حكم سائد في العالم كله رغم أنف العالم كله.

أن تكون مكّاراً وقاسياً في الوقت نفسه لإنتاج عالم آخر لذهنك وحدك، بحيث تلوى أعناق العالم إليك، وتصبح أنت حديث العالم ومنهج النخبة التي أصبحت بلا عمل ولا أمل سوى في القسوة والمكر والانقلابات وركن الدساتير وبناء السجون وتغذية الكراهية ما بين الجيران على الحدود، هذه العودة المخطّط لها لذبح القانون تحت أقدام السوبرمان الجديد والمخاتل الجديد والكاذب الجديد الذي يملك الحجّة في قلب أي حقيقة بالمكر والمساومة بالقنابل والصواريخ. لهذه السفسطة شبه السياسية التي يُراد أن تسود رقعة شطرنج العالم السياسي مجاذيب الآن في العالم ودراويش داخل كلّ نظام من تونس إلى السودان إلى سورية إلى مصر "تحت أي دعوة أو قومية أو حفاظاً على الأمن القومي أو حفاظاً على الأمن الروسي" كلّها حججٌ تذكّرك بالقط الذي يريد أن يأكل الفأر، بعدما تشارك معه وابتنيا مركباً ودخلا به إلى البحر. نحن أمام قرن تُعاد فيه صياغة وتبريرات كلّ غزوات العالم وحروبه وسلبه ونهبه في قرونه وفظاعاته السابقة، تحت يافطات إنسانية ونخبوية ونيتشوية ملفقة. ولا مانع من جرّ رجل نيتشه "ما بين أقواس" إلى الغرض أو فوكو إلى آخره، معركة ضالّة بعدما وجدت النخبة نفسها بلا حيلةٍ في العالم، بعدما انفضّ عنها القارئ، خصوصاً في عالمنا العربي.

أن تكون قاسياً ومكّاراً، وأنت تعرف ذلك بصلافةٍ تُحسد عليها أمام الكاميرا، في الوقت نفسه، لا لمجرّد كسب الوقت أو الاستعراض كما في حالة صدّام، لكن لكي تقنع العالم بأنك صاحب الرأي السديد في العالم رغم أنف العالم في مجمله، وأنت، في الوقت نفسه، تكذب أو تخاتل أو تختال بمنطقك، فهذا هو وجه العالم الذي يحاول جاهداً أن يكون هو واجهة الإمساك بعصا لتأديبه وجعله كحظيرة له أو مقاطعة أو كبنك استثماري أو كعقار أو كناد كروي بالمليارات أو يخت فاره في عرض البحر الأسود أو البلطيق أو الزحف به إلى المياه الدافئة على حساب سوريين مساكين فوق أرضهم من ملايين السنين. نحن أمام مهزلة في سورية منذ سنوات يتفرّج العالم على كلّ شرّها، وكلّ الشرور تتنقل بخفة ويسر من سورية إلى أوكرانيا إلى الشيشان إلى القرم وسبقت ذلك بالطبع أفغانستان.

نحن أمام مائدة للكذب المعمّد بالدم والقتل معاً، مائدة يقودها أتباع العنف والكذب في وضح النهار أمام الكاميرات بعيونٍ صافية وخالية من أي عاطفةٍ كعيون القطط أو الذئاب، مائدة ترى فيها النخبة فوق كراسيها كالطواويس، وبلا أي خجل، وكتبهم قد امتلأت بالدم كبطانة للدبابة والصاروخ والطائرة تحت دعوى تجديد المعرفة وتعميدها بالدم.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري