لا تحتاج مسألة فلسطين إلى تذكيرٍ أو توعية بالنسبة إلى السوريين، إذ غالباً ما تنتمي جيناتهم الثقافية إلى ما قبل سايكس ـ بيكو. هذا انبنى عليه جُلّ الإنتاج الثقافي السوري، والسينما جزءٌ منه كوسيلة مُحدثة للنضال في وجه المُغتصب، والتعبير عن الموقف السوري العام من الاحتلال، خصوصاً بعد التحاق الجولان بفلسطين، لتصبح المسألة أكثر عضوية في ما يخصّ مُتلازمة التحرير والتحرّر.
عدم الحاجة إلى التذكير أو التوعية يُعبّر تماماً عن توافق مُسبق بين المُبدع والمُتلقّي، بخصوص المحتوى المنصوص عليه فنياً، حيث اعتمدت تلك الأفلام، وكذلك نقدها، على المحتوى الفكري، أكثر من اعتمادها على المُعالجة الفنية. فالموضوع برمّته رسالة أو صرخة ضد الظلم الذي لحق بشعب، بناءً على سردية ثقافية مزيّفة، استطاع الإعلام العالمي تسويقها في أرجاء المعمورة، ما أوجب إنشاء جبهة ثقافية مقابلة، تسعى إلى دحض تلك الادّعاءات والردّ عليها.
هذا بالضبط جعل الأفلام المصنوعة من أجل فلسطين تتأرجح بين خطابي الداخل والخارج، في مواجهة حامية مع آلة الإعلام العالمي، المُتصهين آنذاك. هذا أيضاً جعل الأفلام مقبولة نقدياً، من حيث المحتوى فقط، ولم تتعرّض إلّا للتقريظ والامتداح، وتحوّلت إلى مرجعية أرشيفية ثقافية لاحقاً.
استحوذت الأفلام السورية ذات العلاقة المباشرة بفلسطين والمسألة الفلسطينية على نسبة مهمّة من مجموع الإنتاج السينمائي السوري، على أنواعها، المُنتجة منذ النكبة حتّى اليوم، فضلاً عن الأفلام التي اعتمدت فلسطين في خلفيتها التأسيسية، إنْ عبر الجولان، أو بالتواصل المباشر مع الشخصية الفلسطينية، وحضورها الاجتماعي في الشتات. ساعد على ذلك حياد فلسطين سياسياً، فالمسألة الفلسطينية فوق السياسة، والالتقاء عليها حوّلها إلى أيقونة وطنية، تتشعّب من تحتها الأطروحات الثورية أو التحرّرية. هذا جمع السينما بالمنتجات الثقافية الأخرى، كالأدب والأبحاث والدراسات، ونجد صداها في أفلامٍ كـ"عائد إلى حيفا" (1982)، لقاسم حول، عن قصّة غسان كنفاني، كذلك في الأفلام الوثائقية الأرشيفية لأمين البني، كـ"مذكّرات فلسطينية" الذي يعتمد على البحث في أرشيفات سينمائية متنوّعة.
على هذا المنوال، اندمجت أفلام فلسطين مع الفيلم السوري في سياق عامٍ واحد، بناءً على تشاركية العمل الثقافي. نلاحظ هنا أنّ معظم الأعمال مأخوذة عن أعمالٍ أدبية راسخة، أو ناتجة من بحثٍ وتحليل ثقافيين للحالة الفلسطينية، مع التنبّه إلى وحدة الكوادر البشرية الفلسطينية ـ السورية، المُشاركة في صنع هذه الأفلام.
مع ستينيات القرن الـ20، أي مع عودة دارسي السينما خارج سورية إلى بلدهم، وتراكم هزيمة الـ67، فوق نكبة الـ48، وانطلاق العمل الفدائي آنذاك، بدأت أفلام فلسطين في الظهور بين الأفلام السورية، من دون أيّ تصنيفٍ خاص لها كسينما فلسطينية، وهي ليست كذلك على أيّ حال، وأيضاً من دون أيّ رؤية استراتيجية، تضعها في سياق عربي أو عالمي، رغم أنّ المقصود من إنتاجها مواجهة الدعاية الصهيونية في العالم. على هذا الأساس، يمكننا النظر إلى تلك الأفلام كأفلامٍ دعائية لفلسطين، تتّخذ من المسارات السينمائية في الحرب العالمية الثانية مآلاً لها، تشبّهاً بالمقاومات الوطنية الأوروبية ضد النازيّ. هكذا يُشاهَد "ثلاث عمليات داخل فلسطين" (1968)، لسيف الدين شوكت (قطاع خاص)، و"عملية الساعة السادسة"، للمخرج نفسه، من هذه الزاوية، كنوعٍ من دعاية لإشهار المقاومة ضد عدوّ يشبه النازيّ في عدوانيته، بالإضافة إلى الدعوة إلى المشاركة في العمل الفدائي، والتطوّع في منظّماته.
في الإطار نفسه، كان لحضور "المؤسّسة العامة للسينما"، وتمويلها مشاريع فيلمية "طليعية"، دورٌ أساسي في استمرار إنجاز أفلام حول فلسطين، باكورتها "إكليل الشوك" (1968)، للمخرج العائد من الدراسة نبيل المالح، أتبعته المؤسّسة نفسها بـ"رجال تحت الشمس" (1969)، المؤلّف من ثلاثة أفلام روائية قصيرة: "المخاض" لنبيل المالح و"ميلاد" لمحمد شاهين و"اللقاء" لمروان المؤذن، مُترافقاً مع الفيلم التسجيلي "بعيداً عن الوطن" (1969) لقيس الزبيدي. انطلاقاً من هذه الأفلام، تبدو فلسطين السينمائية أيقونة ثقافية، من الواجب البديهي الذود عنها كمعركة ثقافية مصيرية، تخصّ الجميع (فلسطينيين وسوريين وعراقيين ولبنانيين ومصريين وغيرهم).
لتوغّل "المؤسّسة العامة للسينما" في صنع هذه الأفلام سياقان: الأوّل يخصّ فلسطين وحدها، كجغرافيا مسلوبة يجب استعادتها، انصافاً لأهلها، وعرضاً لمعاناتهم المُغْفلة، كما في "المخدوعون" (1972) لتوفيق صالح، و"كفر قاسم" (1974) لبرهان علوية، و"السكين" (1972) لخالد حمادة، و"بوابة الجنة" (2009) لماهر كدو. الثاني يتعلّق بالأفلام السورية التي تتضمّن فلسطين كجزء عضوي فيها. ففلسطين، كما أسلفنا، ليست حدثاً خارجياً بالنسبة إلى المنتجات الثقافية السورية، ويمكن رصد أفلامٍ كأمثلة: "حادثة النصف متر" (1981) لسمير ذكرى، و"الليل" (1994) لمحمد ملص، و"ليالي ابن آوى" (1989) و"قمران وزيتونة" (2001) لعبد اللطيف عبد الحميد.
في السياقين، كانت فلسطين تحصيلَ حاصل، للدلالات الأيقونية التي تمثّلها وترصدها الأفكار السينمائية، كمحتويات لثقافة تحرّرية، لا تخضع للنقد بمعناه الفني الإبداعي، نظراً إلى سيطرة المحتوى الأيقونيّ على تلك الأفلام. لذا، لا يمكن رصد التأثير الثقافي أو السلوكي لدى المتلقّي، بسبب استمرار نظرة الستينيات إلى القول السينمائي وغاياته، بحيث لا يخرج عن المُساهمة النضالية في الردّ على تحديات تلك المرحلة. فما إنْ يضع صانع الفيلم "فلسطين" كعنوان، حتى يُصبح عصياً على النقد، وواجب التأييد والإعجاب.
هناك تغيّرات أساسية طرأت على السينما السورية (إنتاجاً وتلقياً)، من الستينيات الماضية إلى يومنا هذا، بدت في معظمها مصنوعة لمخاطبة الخارج، ردّاً على الأطروحات الصهيونية المضلِّلة. أهم هذه التغيّرات ظهور سينما فلسطينية اعتباراً من "عرس الجليل" (1987) لميشيل خليفي، وتبلور أفلامها بما يتناسب مع الحدث الفلسطيني، وحداثة المحتوى والمعالجة. المتغيّر الآخر تردّي حالة المُشاهدة، وغياب صالات السينما كفاعل ثقافي (السينما فيلم وصالة عرض). هذا حوّل أفلام فلسطين السورية إلى مادة أرشيفية وثائقية، تُستخدم في الأبحاث والدراسات، رغم تداخلها المتين مع الشأن الثقافي ـ الاجتماعي السوري، وأيضاً رغم لمحاتها الانتقادية الاحتجاجية في ما يخص الواقع السياسي المحلي والعربي.
واقعياً، تجاوز الحراك الفلسطيني، بمعناه الثقافي والتعبوي، الخطاب السينمائي الستينياتي لأفلام فلسطين السورية التي أضحت بحاجة إلى تطويرات إبداعية، تتناسب مع المعطيات السينمائية المستجدة، لجهة الصنع والعرض، والأهم تملّك تلك الحساسية الابداعية لصناعة الأفلام وتسويقها.
تبقى لأفلام فلسطين نكهة خاصة، نابعة من ضرورة وجودية، ففلسطين ليست فييتنام، نؤيّدها ونتعاطف معها، بل جزء من تكويننا الاجتماعي، الذي لا يكتمل من دونها. لذلك، لا تبدو أفلام فلسطين السورية مصنوعة للتعاطف والتأييد، بل سياقاً معرفياً عضوياً طبيعياً، يتفاعل في الأداء الإبداعي لصنّاع الأفلام السوريين.