في مرحلةٍ من تاريخ النضال الفلسطيني، الممتد لأكثر من 70 عاماً، عرف الفلسطينيون أهمية السينما في مواجهة الاحتلال، وأذرعه الفنية والإعلامية المزروعة في كلّ دولة تقريباً، يستجدون بها التعاطف في كلّ مواجهة، ليحافظوا على معاكسة التاريخ ويقينيّته، بالمخادعة والتدليس والافتراء. بهذه المراوغة، كسبوا شريحة واسعة من السياسيين والنجوم والشخصيات العامة المؤثّرة، يستعينون بها على هشاشتهم.
لكنّهم لا يعلمون بأنّهم يتقدّمون بعيون معصوبة بأشرطةٍ سوداء، وأقدامٍ مغروسة في رمال متحرّكة، وإنْ نجوا من صدمة جدار التاريخ، فلن ينجوا مُطلقاً من الغرق في بطون الرمال وتجاويفها. استوعب صنّاع السينما الفلسطينية هذه الحقيقة جيداً، وفهموا معادلتها في تحقيق التوازن المعرفي وإظهار الحقيقة. لذا، حملوا الكاميرا على أكتفاهم، ودخلوا المعترك الفني بخطى واثقة. وبعد تجارب متواصلة، تجاوزوا مرحلة "الفيلم الفلسطيني"، ووصلوا إلى مرحلة "السينما الفلسطينية"، التي تعتمد - في تفاصيلها وتنوّعها وبنائها وطرق سردها - على جماليات ومواضيع إنسانية مدروسة بعناية فائقة، تنطلق من هوية الإنسان الفلسطيني وجراحه، مُبتعدةً عن الخطب الحماسية وجعجعتها التي تقتل الفنيّة، وتُنفِّر الجمهور من تلقّي القضية، وفهم حقيقة فلسطين وما يجري فيها بشكل جيد.
خيارهم الفني هذا متأتٍ من فهمهم عملية الصناعة السينمائية المحترفة. لذا، أنتجوا وأخرجوا أفلاماً بأبعادٍ جمالية متقدّمة، ومُطرّزة بماهية الفرد وهويته واحتراقه وأوجاعه، بسبب المعاناة التي شكّلها الاحتلال بتمييزه العنصري، وأفعاله الإجرامية التي يعتمدها لإذابة شخصية الفلسطيني، وحرق كرامته. تناولت أعمالهم تلك الأوجاع، بطريقة مؤسِّسة فنياً، وبأبعادٍ احترافية من نواحٍ عدّة، فاحتضنتها معظم مهرجانات السينما العالمية، ودخلت في مواجهة سينمائية كبرى مع الآلة الدعائية الإسرائيلية وسينماها ونجومها، مُفنّدين بها الأكاذيب التي رسّخوها في ذهن المتلقّي الأجنبي أعواماً طويلة التي تقول إنّ المحتلّ عادلٌ ومظلومٌ، وهو صاحب الأرض تاريخياً، يحترم حقوق الإنسان وكرامته، ويتعامل مع الفلسطينيين بعدلٍ ومساواة.
لكنّ العالم، المخدوع بهذه الأفكار الباردة، فوجئ بأفلامٍ فلسطينية جديدة وعديدة، تحمل أفكاراً مغايرة تماماً، وتُظهر افتراء المحتلّ وأكاذيبه بأدلّة منطقية، وسياقات فنية لا تُدحَض. أكثر من هذا، تجاوزوا بها دبلوماسية السياسيين والمسؤولين ومؤتمراتهم، وأصبح اسم فلسطين أكثر حضوراً وتداولاً في الإعلام العالمي، فمع ذكر كلّ فيلمٍ، يُقال دائماً "الفيلم الفلسطيني"، وباتت دولة فلسطين حقيقة واضحة في منابر كثيرة، رغم ضغوطٍ رهيبة تُمارَس على تلك الجهات أو الهيئات، حتى يتجاوزوا الحقّ الشرعي في قبول الأفلام، للحفاظ على عدم وجود دولة، وحصرها في زاوية ضيّقة يتآكلها التناسي. هذه الأفلام كانت أقوى من أنْ يتمّ تجاهلها، أو تجاوز الفرد أو الدولة التي تنتمي إليها. وإنْ يكن هناك حقٌّ واحد يجب أن تحصل عليه تلك الأفلام، فهو حقّ انتسابها إلى فلسطين، ومُشاركتها في تلك الأفلام بجدارة.
أيدٍ إلهية
أثار حضور الأفلام الفلسطينية في مهرجانات سينمائية عالمية نقاشات كثيرة. هناك فئة قليلة قالت إنّ تلك المشاركات نوعٌ من التعاطف والدعم. لكنْ، بمجرّد أنْ شاهدوها، ووقفوا على جماليّاتها وعمقها وفنيّتها، أزاحوا تلك الفكرة والأحكام المسبقة من أذهانهم ونقاشاتهم، وعرفوا أنّها سينما قوية، تحتاج أكثر مما مُنح لها. لذا، تبنّتها تلك المهرجانات والمسابقات والندوات، رغم ضغوطٍ تتعرض لها بسبب قبولها والاحتفاء بها، كما حصل مع "الجنّة الآن" (2006)، لهاني أبو أسعد الذي اختير في القائمة القصيرة لـ"أوسكار" أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، بعدما رُفض قبله "يد إلهية" لإيليا سليمان في دورة عام 2004، رغم حصوله على جائزة لجنة التحكيم في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي". هناك أيضاً "موسم الزيتون" لحنا إلياس، في دورة عام 2005، الحاصل على جائزة أفضل فيلم عربي في "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، إضافة إلى مشاركاتٍ وجوائز عالمية أخرى.
بعد هذا كلّه، تتالت عملية الدفع بالأفلام الفلسطينية لإشراكها في هذه الجائزة العالمية (أوسكار)، التي تُسلّط عليها الأضواء: "ملح هذا البحر" لآن ماري جاسر في دورة عام 2009، و"لما شفتك" للمخرجة نفسها في دورة العام التالي. لكنّ هذا الدفع لم يؤدّ إلى ترشيحهما رسمياً، قبل أنْ يُرشّح "عمر" لأبي أسعد في الدورة الـ86، ويصل إلى القائمة القصيرة.
تواصل الرفض، رغم أهمية الأفلام التي قدّمتها فلسطين، كـ"واجب" لجاسر أيضاً، المعروض في "مهرجان تورنتو السينمائي الدولي" عام 2017، والوثائقي "اصطياد أشباح" لرائد أنضوني، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ67 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، ثم "إنْ شئت كما في السماء" لسليمان، المُشارك في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" عام 2019، و"غزّة مونامور" عام 2020، لتنتهي جولة الأفلام الفلسطينية في "أوسكار" بترشيح الفيلم الروائي القصير "الهدية" (2021)، الفائز بجوائز عالمية عدّة، أهمها "بافتا" لأفضل فيلم قصير، وأفضل روائي قصير في "مهرجان بروكلين السينمائي"، وجائزة الجمهور في "مهرجان كليرمون فيران للأفلام القصيرة" (فرنسا).
فرضت السينما الفلسطينية احترامها على المهرجانات العالمية، وليس "أوسكار" فقط. وباتت فلسطين حالياً الدولة العربية الثانية الأكثر ترشّحاً للجائزة بعد الجزائر. امتدّ هذا الاحترام إلى مهرجاناتٍ أخرى عدة عريقة وكبيرة، كـ"3000 ليلة" لمي المصري، المُشارك في "مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، و"غزة مونامور" للأخوين طرزان وعرب ناصر، المُشارك في "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، والفائز بجائزة "اتّحاد دعم السينما الآسيوية" في "مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، إضافة إلى مُشاركته في "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي". وأخرج الأخوان ناصر فيلماً قصيراً بعنوان "كوندوم ليد"، اختير للمنافسة في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي"، واحتفى بتجربتهما الروائية الطويلة الأولى، "ديغراديه"، عام 2015، إضافة إلى "مهرجان تورنتو السينمائي الدولي" في العام نفسه.
مشاركة الأفلام الفلسطينية كثيرة ومتنوّعة، يصعب حصرها وذكرها كلّها، لذا، تمّ اختيار نماذج محدّدة، لإثبات أهمية السينما الفلسطينية ومشاركتها في محافل دولية، رغم التضييق والضغط. سينما تزرع جمالاً في قلوب مُشاهدي أفلامها، وفي الوقت نفسه تُعرّف بالإنسان الفلسطيني وهويته، وتُناقض طرح الاحتلال، الذي يحاول دائماً القضاء على السردية الفلسطينية، وإلغاءها تماماً.
الجدار والمعابر
تحاول معظم الأفلام الفلسطينية الحديثة استبيان الكابوس الكبير الذي يعيشه الفلسطيني على أرضه، والذي يصنعه المحتلّ، المتفنِّن في ابتكار وسائل تعذيب نفسي وجسدي رهيبة، خاصة مع تشييد جدار الفصل العنصري، وعلى المعابر المختلفة. آليات كهذه تستنزف نفسيّة الفلسطينيّ وطاقته وروحه يومياً، لتتركه مهزوماً ومنطوياً على نفسه، لا يُفكّر سوى في مشاكله البسيطة، المتعلّقة بتصاريح العمل، والتنقّل من مكان إلى آخر للاستشفاء وزيارة الأقارب وغيرها. هذا يحضر مثلاً في "200 متر" لأمين نايفة الذي نقل صورة مُصغّرة عن الخراب الكبير المتأتّي من بناء جدار الفصل العنصري، من خلال قصّة مصطفى (علي سليمان)، الذي يرفض الحصول على الهوية الإسرائيلية، لكونه من "فلسطينيي الـ48". ورغم قِصر المسافة بين منزلي والدته وزوجته (200 متر فقط)، يصعب عليه أنْ يلتقي امرأته وأولاده، لأنّ الجدار يفصل بينهما. هكذا تنشأ المآسي، التي تُصعّب تماسك الأسرة واستمرارها، خصوصاً مع تعرّض ابنه لحادثٍ ونقله إلى المستشفى مع أمّه، فيجد مصطفى نفسه غير قريب منه، ما يجعله يلجأ إلى مُهرّبين للدخول إلى الجهة الأخرى، بعيداً عن حواجز الاحتلال، لتبدأ مشاكل لا تنتهي.
يندر وجود فيلمٍ فلسطيني من دون مَشاهد المعابر أو جدار الفصل العنصري، وحتى السياج الحديدي. في "الجنّة الآن"، هناك صُور كثيرة تحاكي هذا الأمر. مثلاً: أحدهم يقطع السياج الحديدي ليمرّ المنتحران، إضافة إلى حواجز الاحتلال التي تُحرّم السير في الطريق العادي، ما يحتم عليهما سلوك طرق فرعية. كما توظَّف المعابر وتقسيمها العنصري بين الفلسطينيين والمستوطنين: تخصيص معابر طويلة مقسّمة إلى أقفاص حديدية، يمرّ فيها الفلسطينيون فقط، خاصة أولئك الذين لديهم تصاريح عمل وزيارة. أمّا المستوطنون، فيمرون بشكل عادي في ممرّات خاصة بهم، من دون أيّ مشكلة أو تفتيش.
"200 متر" وظّف هذا الأمر من خلال تنقّل مصطفى للعمل، كما وظّفه "بين الجنّة والأرض" (2019)، لنجوى نجار، بإظهاره المعاناة التي تحدث في المعابر، وبتصديره جدار الفصل العنصري بصورة مكبّرة تكتم أنفاس الفلسطينيين، وإنْ يمرّ الجدار بصورة عابرة، لكنّ الصورة تطرح أسئلة كثيرة عن ماهيته. يذكر أنّ نجار نقلت تلك الأوجاع في "عيون الحرامية" (2016)، أيضاً. ذهب "فرولة" (17 دقيقة، 2017)، إلى السياج الحديدي العنصري، راوياً، بحسب ملخّصه، قصّة سمير (43 عاماً)، "صاحب محل أحذية في رام الله"، الذي "لم يرَ البحر مطلقاً، فقرّر التسلّل عبر الحدود الإسرائيلية، مع عمّال بناء فلسطينيين آخرين، لتحقيق حلمه في رؤية البحر". بدلاً من ذلك، ينتهي به المطاف في موقع بناء، ليتسلّل لاحقاً إلى يافا، عبر حقول الفراولة، لتحقيق حلمه. لكنّ جنود الاحتلال كانوا له بالمرصاد. رسم "فرولة" هذا التناقض، إذْ بات الحقّ الفلسطيني حلماً يصعب تحقّقه.
ذاكرة ضد النسيان
يُكمل ذكاء صنّاع السينما الفلسطينية في توظيف التراث، المادي وغير المادي، في أفلامهم، سواء كمتنٍ أو كهامش، كاللباس والمأكل والغناء والرقص وإقامة الأعراس والمناسبات، لتكريسها وتوثيقها، حتى لا يستولي المحتلّ عليها، وفي الوقت نفسه، يقولون بأفلامهم للعالم إنّ هذا الشعب ينتمي إلى تلك الرقعة الجغرافية المحتلة، ويملك تراثاً كبيراً، ينعكس في أشياء كثيرة، تصنع تميّزه وهويته التي لن يطاولها النسيان، طالما يتمسّكون بها. هذه التفاصيل الصغيرة تُربط بقصصٍ، مكتوبة بعناية فائقة، لجعلها مقبولة لدى المُشاهِد، الباحث عن الإثارة ليستمرّ في المُشاهدة. لذا، وفّرت له السينما الفلسطينية وسائل سرد مقبولة، ليهضم ما يُشاهده. مخرجون عديدون يلعبون في أفلامهم على التناقص في قصصهم الثانوية، ليدعموا بها قصصهم الرئيسية، كشخصية سعيد (قيس ناشف) في "الجنّة الآن"، الذي يريد تنفيذ عملية فدائية، وهو أساساً ابن عميل، أحبّ سهى (لبنى أزابال)، ابنة الفدائي المعروف أبو عزّام. في "بين الجنّة والأرض"، تنعكس هذه الثنائية في الزوج، الذي يكتشف بأنّه ابن يهودية، بعدما باشر عملية الطلاق. أما في "200 متر"، فالتناقض جغرافي، والجدار يُفرِّق أفراد عائلة واحدة، فيتمّ التواصل بينهم من خلال شرفتي البيتين. في "غزّة مونامور"، يظهر العبث والمقلب الدرامي في عيسى (سليم ضو) الستينيّ، الذي يقع في حبّ الأرملة سهام (هيام عباس)، ويعثر في البحر على تمثال إله الشمس والموسيقى والرماية. عثور كهذا يُفترض به أنْ يمنحه السعادة، لكنّه انعكس عليه سلباً، وتحوّلت حياته إلى جحيم لا يُطاق.
بمثل هذه الألعاب السردية، التي تُنتج التناقض والأضداد والمقارنات، تنحت السينما الفلسطينية طريقها بكلّ حِرفية، مؤسِّسةً لنفسها مَتناً يليق بنضالها وقضيتها، فيراها العالم في حلّة مكتملة، ويعرف عبرها قضية فلسطين ونضالها المشروع من أجل حقوقها.