عن "هانا ك." المختلف في تناوله فلسطين: حق الملكية يهز كيان العدو

20 أكتوبر 2023
جيل كلايبرغ ومحمد بكري في "هانا ك." (IMDb)
+ الخط -

تمّ تناول الموضوع الفلسطيني في السينما العربية، في أكثر من خمسة عقود، ومن عمر السينما، بطريقة عاطفية ودعائية، لم تصمد طويلاً في الذاكرة الجمعية للمتلقّي العربي، بسبب زاوية النظر المُنحازة غالباً، واختلاف أساليب تناولها، وأيضاً بسبب خضوعها لاعتبارات سياسية، أو تأثّرها بمراجع إنتاجها العربية، أكانت شركات أم دول من خلال مؤسّساتها.

لكنّ الأمر لم يخلُ، طبعاً، من استثناءات قليلة، وإنْ لم تتجاوب، بشكل مطلق، مع بعض ذائقة المتلقّين العرب، أيضاً بسبب اختلاف زوايا النظر للقضية الفلسطينية نفسها، بوصفها الهَمّ السياسي الأساسي للقوى السياسية، التي كانت على رأس الهرم السياسي العربي.

من هذا المنطلق، لم تترك الأفلام العربية، التي تناولت القضية الفلسطينية، أيّ أثر فيّ، سوى معرفة مقدار الانحياز العاطفي لها. لذا، كان البحث عن سينما أخرى، تستطيع أنْ تتمثّل تفاصيل هذه القضية، بكلّ أبعادها الإنسانية والسياسية، وتقدّمها بشكل موضوعي وغير منحاز، وهذا بعض من رسائل السينما الملتزمة.

في هذه السينما، هناك "هانا ك." لكوستا ـ غافراس، المعروض عام 1983، كأكثر الأفلام التي تناولت قضية فلسطين تأثيراً فيّ. السبب، قبل أنْ يكون فنياً، كامنٌ في أنّه أول فيلم تحضر فيه القضية في السينما العالمية، وأنّ صانعه مُخرج لم يمضِ عامٌ واحد على تحقيقه "مفقود" (1982)، الفائز بـ"السعفة الذهبية" في الدورة الـ35 (14 ـ 26 مايو/ أيار 1982) لمهرجان كانّ السينمائي (بالإضافة إلى جائزة أفضل تمثيل لجاك ليمون)، و"أوسكار" أفضل سيناريو مقتبس لكوستا ـ غافراس نفسه، مع دونالد إي. ستيوارت، عن كتاب بالعنوان نفسه للأميركي توماس هاوسر (النسخة 55، 11 إبريل/ نيسان 1983)، الذي يتحدّث عن الانقلاب العسكري في تشيلي عام 1973، وتورّط الحكومة الأميركية بدعم الانقلاب سرّياً، مُسلّطاً الضوء بدقّة على تصفية بعض أفراد الجالية الأميركية في تشيلي حينها، لمعرفتهم بدعم حكومة بلدهم للانقلاب.

هذا جعلني أترقّب مشاهدة "هانا ك."، علّني أجد فيه ما أفتقده في أفلام فلسطين العربية. وزاد هذا الترقّب الموقف المناوئ له، المتمثّل في معارضة اللوبيات المُساندة لإسرائيل له، وحملات التشهير ضده، التي نجحت إلى حدّ ما في وضعه في خانة النسيان، خلافاً لكلّ أفلامه، وصلت إلى رفض الشركة المُنتجة الإعلان عنه، ما اضطر المخرج إلى أنْ يقوم بنفسه، ومن حسابه الشخصي، بالإعلان عنه.

اشتغل كوستا ـ غافراس على تفصيلٍ إنسانيّ في قضية فلسطين، ما جعله يفترض أنّ ردة الفعل لمناوئي القضية أخفّ عليه. تفصيلٌ يحتمل الأخذ والردّ، خلافاً لتفصيل الصراع العسكري المزمن مثلاً. فأحداث الفيلم، الذي كتبه الإيطالي فرنكو سوليناس (مع كوستا ـ غافراس)، مؤلّف "معركة الجزائر" (1966) لجيلّو بونتيكورفو، تتمحور حول دفاع المحامية الأميركية من أصل يهودي هانا كوفمان (جيل كْلايبر) عن رجل فلسطيني يدعى سليم بكري (أول حضور عالمي للممثل الفلسطيني محمد بكري الذي اختاره المخرج بعد مشاهدته إياه وهو يُمثّل على المسرح)، تعتقله الشرطة الإسرائيلية وهو في طريقه إلى منزله. تنجح في مهمّتها، ويُطلَق سراحه من السجن. بعد مدّة، يستعين بها للدفاع عنه، بعد إلقاء القبض عليه مجدّداً.

نتعرّف إلى قصّة الشاب الفلسطيني منذ طفولته، وما تعرّض له مع عائلته من تهجير قسري إلى مخيّم للّاجئين في لبنان، بعد أنْ صدرت أوامر بهدم مدينته القديمة، باستثناء منزله الناجي من الهدم، فيستخدم حقه الطبيعي بزيارة مدينة طفولته، متسلّحاً هذه المرة بوثائق تُثبت ملكيّته للدار، فيُجابه بالاعتقال وبتهمة جاهزة: الإرهاب. يُمنح حقّ تعيين محامٍ له، فيستعين بمحامية تتعاطف مع قضيته، التي تتّخذ مساراً مُعقّداً.

ركّز كوستا ـ غافراس على التفصيل المتعلّق بملكية الأرض، وهذا جانب إنساني ترتكز عليه مطالب الفلسطينيين في حقّهم الشرعي المُغتَصب، حيث تتعارض مع السلطة القضائية الإسرائيلية، وكَسْب هذه القضية يعني اندحاراً للمنطق الذي تتبناه إسرائيل. كما أدار شخصياتٍ تحوّلت بالحدث من سكونه إلى احتدام النقاش عن أحقية هذا المطلب، وبينها طبعاً شخصية سليم، الذي اتّسمت أفعاله حول القضية بالهدوء، في مقابل تشنّج الآخر، وافتعاله الغضب. حتى في تصويره، اعتمد كوستا ـ غافراس تصويراً للمكان يختلف عن الصورة النمطية المُكرّسة في الغرب، بوصفه الجنّة الموعودة، فكان التوتر متمثّلاً بالوجود الأمني في كلّ شبر من المكان، وهذا ركّزت عليه الكاميرا.

أهمية "هانا ك." لديّ أنّ لمخرجه تقديراً في الوسط السينمائي، بوصفه من أهمّ مخرجي عصره، وأنّ اسمه ارتبط بعدد من الأفلام التي تناولت قضايا سياسية معاصرة، كـ"زد" (1969) و"حالة حصار (1973) و"مفقود"، وغيرها. كذلك لأنّه أول فيلم غربي يضع موضوع فلسطين أمام المتلقّي الغربي بمثل هذه المعالجة، التي تنتصر لجانبٍ مهمّ من جوانب المسألة الفلسطينية. أخيراً، لأنّ هذا الفيلم فتح المجال أمام سينمائيي العالم للتطرّق إلى هذا الموضوع بشكل مختلف، لم تعتده سينما الغرب.

المساهمون