بنهاية عام 2023، يُلاحَظ مُتغيّرٌ لافت للانتباه بسطوعه، يحصل في المشهد السينمائي المصري خاصة. مُتغيّرٌ له امتداداته، لكنْ قليلا ما يُشار إليه صراحةً. لهذا، فإنّ استخدام تعبير "مُتغيّرٌ" يحتاج إلى معاينة دقيقة، ليُصح تثبيته، ثم تداوله، بعيداً عن سؤال ملف آنيّ، يُجيز الإشارة إليه من دون حسم نهائي، لشدّة تعقيده وارتباطه بهذه السينما التي يفوق عمرها مائة عام.
المُتغيّر يتمثّل باعترافات نقدية مصرية عن تراجع حاصل في سينما بلد أصحاب الاعترافات. آراؤهم لا يعرف أكثرها طريقاً إلى العلن، أي النشر، وهذا بحدّ ذاته جدير بالملاحظة، ولا يُمكن إهماله عند معاينة أسباب الخلل الحاصل في السينما نفسها. صحيحٌ أنّه، منذ مدة، يزداد حديث النقّاد والمعنيين بشأنها عن "تراجع" السينما المصرية. غير أنّه كان يصطدم دائماً بتأطير قسري، مُتأتٍ من طرفين: أحدهما يؤكّد تراجعها ونضوبها النهائي، والآخر يرى أنّها ظاهرة طارئة، لأنّ مصر وسينماها وَلاّدَتا مبدعين، يظهرون سريعاً بنتاجاتٍ وأعمال سينمائية، تُبطل صحّة الرأي الأول.
هذا حاصلٌ في السنوات الأخيرة. لكنْ، في 2023، هناك ما يؤشّر إلى تراجعٍ تراكميّ، تتّضح ملامحه حين يُقارَن الفيلم المصري بآخر عربي، يترسّخ وتزداد أهميته بوتيرة تصاعدية. يُمكن للمراقب إدراك هذا من خلال اعترافات مصرية حذرة، تُلتَقط من تعابير نقّاد سينمائيين، يتذمّرون جرّاء مشاهداتهم أفلاماً مصرية هابطة، يُقارنها النقّاد العرب بأخرى آتية من بقية بلدان المنطقة، تشهد سينماها تطوّراً ملحوظاً، لا يُمكن لهم تجاهله، كما كان يجري في الماضي، يوم كان يندر أنْ يَسمع الناقد والصحافي العربي من زميله المصري اعترافاً صريحاً برداءة مُنتَجه السينمائي، أو سخرية مريرة وصريحة من أفلامٍ مصرية هابطة، تتنافس في مسابقات مهرجانات عربية، ولا يجد سوى التعجّب من وجودها في ذلك المكان.
من شاهد "شماريخ" لعمرو سلامة و"أنف وثلاث عيون" لأمير رمسيس، المُنتَجَين عام 2023، وسمع سخرية الجميع من مستواهما، بمن فيهم النقّاد المصريون، سيُدرك ذلك. من عرف ردود أفعالهم إزاء مشاهدة "آل شنب" لآيتن أمين، المُنتج في العام نفسه أيضاً، يفهم ما يحصل في السينما المصرية اليوم، ويتّضح في هذا العام بجلاء.
لن يستقيم توصيف 2023 بسنة شؤم على السينما المصرية، لأنّ الحاصل اليوم فيها امتدادٌ لما كان يحصل في سنوات عدّة سابقة، ويتراكم فيُشكّل "ظاهرة" تؤشّر إلى تَرَدٍّ مرتبطٍ بتَرَدٍّ عام في مستوى مساهمة البلد في حقول ومجالات إبداعية وإعلامية كثيرة.
من هذا المنظور، يُمكن قراءة الحاصل في المشهد السينمائي المصري عام 2023 ومن دونه، فالبحث سوف يأخذ دروباً أخرى، لن توصل إلى المساحات الحقيقية التي ينبغي التوقّف عندها، لمعاينة واقعها، ودراسة أسباب بروز سينمات عربية وأخرى غير عربية تنتمي إلى بلدان المنطقة، تصعب حتى مقارنتها بها، كالإيرانية والتركية والمغاربية.
هذه الأخيرة تفرض بحثاً جدّياً، يتجاوز المديح المستحَقّ لها. لأنّ المعاينة الجدية والنقد الرصين وحدهما يُفيدان الحفاظ على ديمومتها. لنْ يضحي مقبولاً، بعد ما قدّمته المغرب مثلاً من أفلامٍ رائعة، أنْ تكون مصادفةً، فالمؤشّرات على آليات ثبوتها وافرة، أهمّها مواهب سينمائية تعرف كيف تحوِّل محليّتها إلى عالمية، وتتجاوز الأحكام السابقة التي تتّهم الجيّد منها بميله إلى مُراضاة مُنتجين غربيين، يفرضون رؤيتهم ونظرتهم على المُنتَج السينمائي المدعوم منهم.
لن يجد الباحثون والنقّاد هذا في الوثائقي المغربي "كذب أبيض" لأسماء المُدير، الذي لا تصحّ مقارنته بغيره من أفلامٍ وثائقية مصرية مُنتجة هذا العام. وللدقّة، تصعب حتّى مقارنته بوثائقيات لبنان، المتزامن عرضها معه. يُلاحَظ، لبنانياً، في العام نفسه، شَحّ وثائقي نسبي، لكن، مؤكّد لن يكون دائماً، لأنْ أسباب ديمومة الفيلم الوثائقي اللبناني وقوّته لا تزال كما هي. عوامل جودته متأتّية من مهارة صُنّاعه وتكيّفهم مع الحرية النسبية التي يتمتّعون بها لصنع سينما خاصة بهم، ترتقي إلى مستوى أفضل السينمات الوثائقية في المنطقة.
في الجانب الروائي، قدّم المغرب تُحفاً، بعض عناوينها التالي: "عصابات" لكمال الأزرق، و"المحكور مكيبكيش" لفيصل بوليفة، و"الثلث الخالي" لفوزي بن السعيدي. كوثر بن هنية التونسية قدّمت "بنات أُلفة"، والجزائري كريم بن صالح يأتي بتحفته "ما فوق الضريح". بينما يستمرّ الأردن في محاولاته السينمائية الجادّة، المتوَّجة بـ"إن شاء الله ولد" للشاب أمجد الرشيد، وغيرها الكثير المُنجز في بقية دول عربية، كما من إيران وتركيا، تضع من دون تعمّد علامة استفهام حول مستوى الفيلم المصري، الذي بات يراقب من بعيد بقية مثله، تتجاوزه بمسافة بعيدة.