سينما مقرونة بعشق امرأة علّمتني لذّة الحكي

17 يناير 2024
في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، خلال يناير/ كانون الثاني 2023 (محمود عيسى/ Getty)
+ الخط -

كانت العاشرة والنصف ليلاً، حين جاءني خبر وفاة جدّتي. لم أتخيّل إطلاقاً أنّها سترحل بهذه الطريقة "الخائنة". كنتُ مُستلقياً، أقرأ الشعر، وأحاول ترميم عطبِ مرحلةٍ قاتلة عشتها في حياتي. أختي الصغيرة تبكي في الهاتف، وأنا مُندهش بما أسمعه. أتّصل بخالي، فيُؤكّد لي خبر الرحيل. من الهاتف، أسمع خالتي، التي ربّتني، تبكي بحرقة. يأتيني صوتها من بعيد، كأغنيةٍ حزينة تطنّ في أذني إلى الآن.

ألمٌ يعتصر القلب، والعين تذرف دمعاً، والجسد بدا كأنّه تعطّل إلى الأبد. ماذا أفعل؟ هل أسافر إليها؟ أم أنّي لا أقوى على رؤيتهم يحملونها إلى القبر؟ كيف سأحمي نفسي من عيون الناس؟ ماذا أقول لكلّ هؤلاء الذين سيُحاصرونني بالأسئلة البلهاء؟ كيف أحمي نفسي من عدم الانهيار أمام جثّتها الهامدة؟ من يُرجعها إليّ؟ من أين أستمدّ القوّة كي لا أبكي أمام الناس؟ هل أعود إلى خزّاني السينمائي، أم أستحضر طفولتي في المسرح؟

أسئلة كهذه ترُجّني إلى اليوم، وسؤال الموت بينها يظلّ مُحيّراً. أين يذهب من نُحبّهم؟ كيف يقوى المرء على الصمود والمشي، بعد أنْ يفقد في طريقه من يُحبّ؟ هل الموت حقّ علينا، أم أنّه عبارة عن بداية حياةٍ لا تنتهي؟ كيف أقتنع أنّ جدتي بخير، وأنّ حياتي الآن ينبغي أنْ تكون كدحاً واشتغالاً، لأحيي ذكراها في قلب العالم إلى الأبد؟

أعتقد أنّ الذين نُحبّهم، حين يموتون، يأخذون منّا شيئاً إلى الأبد.

أحاول مراراً ارتداء معطفي، والسفر إليها. لكنّي لا أستطع. مشهد الخروج بها من الحي، أمام أصدقاء وصديقات الطفولة، لن أتحمّله. في ذلك الزقاق، البارد شتاءً والحار صيفاً، تعلّمت كيف يُمكن أنْ يُصبح الواقع مختبراً لمُشاهداتي السينمائية. مَشاهد كثيرة رأيتها طفلاً تستحقّ اليوم أنْ تُروى قصصها للناس، فيحفظونها عن ظهر قلب. أعترف أنّي عشتُ وسط نساء كثيرات مُطلّقات في ذلك الحي. رأيت، وأنا طفل، كيف يتسلّط الرجل على المرأة ليلاً. وحدي سمعتهنّ يصرخن من كثرة آلام الضرب. وحدي رأيتها تأكل من القمامة، والباقيات يعملن خادمات في منازل الأغنياء.

في ذلك الحيّ، كانت الأبواب كلّها مُشرّعة في وجوه الأطفال. كنّا نذهب جماعة، أطفالاً ونساءً، عند أم عثمان، لنُشاهد حلقاتٍ من مسلسلات مكسيكية، قبل أنْ تتوحّش نظيرتها التركية، فتُصيب فعل المُشاهدة بعطبٍ دائم. بعد المسلسلات، كُنّا نختلي نحن الأطفال، وجدّتي تحرسنا، لمُشاهدة أفلامٍ سينمائية عالمية. كان الأكشن المُفضّل عندنا. لكنْ، بين منزلٍ وآخر، كانت ثقافتنا السينمائية تزداد يوماً بعد يوم. أصبحنا نعرف الأسماء، ونُعيد قراءة وحفظ حوارات أفلامٍ، نُجسّدها في الحيّ. جدّتي آمنت بالسينما، وبالدور الذي يُمكن أنْ تلعبه في تربيتنا. جدّتي لم تدخل يوماً إلى مسجد ومدرسة. آمنت بأنّ السينما وسيلتنا الوحيدة لتحقيق أحلامنا، في تلك المدينة النازحة من أقصى العدم. على هذا الأساس، حملت لي من إيطاليا آلاف الكاسيتات لأفلامٍ متنوّعة، لا أزال أحتفظ بها إلى اليوم.

في لحظة الصدمة، الشيء الوحيد الذي بقي في ذهني كيف حمتني جدّتي بالسينما من الانتحار في البحر الأبيض المتوسّط، وأنا أرغب حينها في تحقيقٍ حلمٍ غائم. مَشهد (لم أره) خروجها من الحيّ مُمدّدة في كفنٍ أبيض، إلى قبرٍ بلونٍ أزرق (وعدتها بذلك)، يقف إلى حدّ الساعة حاجزاً بيني وبين الاستمرار في الحياة. لم أتوقّع أنْ ترحل بهذه الطريقة الدرامية. أتذكّر آخر مرّة زرتها، قالت لي: "خفت أنْ أموت ولا أراك". كأنّ القدر منذ تلك اللحظة يسخر منّي. حياتي كمرآة مشروخة ومُشوّهة، لا أستطيع عبرها رؤية نفسي ولا جسدي. هل تشفينا السينما من الموت؟ هل تواجه السينما الموت، بنقلها قصصاً من قلب مدينة غزّة، مثلاً؟ كيف تقوى على فعل ذلك؟ هل الخيال هبة الحواس، والمرء يستطيع عبره السفر إلى اللامنتهي؟ ماذا يكون هذا اللامنتهي في السينما؟ أموتٌ سابقٌ على موتنا، أم أنّ الموت نفسه أصل هذا الوجود ونبضه؟

أسئلةٌ كهذه تطرحها السينما بنَفَسٍ مختلف. الصورة نفسها لا تستطيع القبض على الموت. إنّه ينزلق من يدها. الموت صورة ومُتخيّل، قبل أنْ يكون حضوراً فيزيقياً في عالمنا.

مَشهد الخروج من المنزل إلى المقبرة أشبه بمَشهدٍ سينمائيّ يختزل حياتي المُعطّلة. مَشهدٌ يُعيد نفسه باستمرار. الخروج من أرض الأجداد. الخروج من بيت العائلة. والآن، خروجها من حياتي إلى اللامنتهى. السينما علّمتني أنّ الحياة أشبه بأغنيةٍ مُملّة ينبغي عيشها بكلّ تفاصيلها، وأنّ الخيال لا يكون دائماً خيالاً، بل فكرٌ واقعيّ يحاول باستمرار أنْ يسمو عن الواقع الفيزيقي الذي ننتمي إليه كبشر.

سيظلّ جُرح سنة 2023 غائراً في جسدي. إنّها وشمٌ مُنطبعٍ في ذاكرة جسدٍ توقّف نبضه، لكنّه يُحاول باستمرار مقاومة فداحة عيشه. في حين أنّ السينما مقرونة بعشق امرأة علّمتني لذّة الحكي.

المساهمون