بإلقاء نظرة على العام السينمائي الفائت (2023)، يظهر أنّ الجديد في القاعات السينمائية كامنٌ في تفوّق أفلام البشر الملمسوسين على أفلام الكارتون المُقوّى.
يستحقّ عام 2023 أنْ يُنسى، سياسياً وأمنياً واقتصادياً. لكنّه يستحقّ أنْ يُخلّد سينمائياً. مع "قتلة زهر القمر" و"نابليون"، صوّرت شركة "آبل" التاريخَ بكاميرا مارتن سكورسيزي وريدلي سكوت. فيلمان كلّفت ديكوراتهما عشرات ملايين الدولارات الأميركية. روى سكورسيزي قصة جرائم قتل أعضاء قبيلة أميركية، قبل قرن. روى سكوت حروب نابليون، التي صاغت نتائجها حال أوروبا في القرن الـ19.
تحضر الدراما التاريخية بكثافة في سينما 2023، كفيلمٍ تجري وقائعه عام 1970، كـThe Holdovers، لألكسندر باين، وآخر تجري وقائعه عام 1944، كـThe Zone Of Interest لجوناثان غلايزر.
هذا عام خَفُتَ فيه صوت شركة "مارفل"، وتحقّقت أرقام قياسية وجدل إعلامي لأفلام "باربي" لغريتا غيرويغ، و"أوبنهايمر" لكريستوفر نولان، و"مهمة: مستحيلة ـ حساب الموتى، الجزء الأول" لكريستوفر ماك كارّي، و"الراهبة 2" (لعنة القدّيسة لوسي، كما العنوان الفرنسي) لمايكل تشافيز، و"نابليون" لسكوت.
في هذه الأفلام سردٌ واقعي يربط السينما بأبعاد اجتماعية وأخلاقية. مثلاً: فسّر "أوبنهايمر" حروب العالم التي اشتدّت عام 2023، ما زعزع صورة المخترعين، وجعل مسؤوليتهم الأخلاقية عن الشرّ الناتج عن اختراعاتهم ثابتة.
خَفُتَ صوت أفلام السرد الكارتوني، المتورّم بالمؤثرات البصرية والسمعية الباهرة. خَفُتَ صوت البطل الكارتوني الرقمي الخارق، الذي تحرّكه قوة خارجية، لا الدوافع النفسية الطبيعية لدى البشر. هذه أفلام سخر منها سكورسيزي، مُسمّياً إياها "أفلام الملاهي". كما سبق لتشارلي شابلن أنْ سَخِرَ باكراً من أفلام الخوارق والمؤثّرات والتكلّف في استخدام الكاميرا (قصة حياتي، ترجمة كميل داغر، المركز الثقافي العربين بيروت، ط. 1، 1994، ص. 234). السينما حكي بصري يفكّ شيفرة مصالح وأفكار ومشاعر ورغبات الشخصيات التي يُصوّرها الفيلم.
رغم ملايين نتاجات "مارفل" و"ديزني"، عن الأبطال الخارقين، أثبت عاما 2019 و2023 أنّ الأفلام التي تُصوِّر حياة البشر، لا الأفلام الرقمية، تنجح فعلياً في مُساعدة الناس على فهم حياتهم. هذا ينطبق على أفلام "كتاب أخضر" (2018)، لبيتر فاريلّي، و"المحظية" (2012)، لكيم داي ـ سونغ، و"حدث ذات يوم... في هوليوود" (2019)، لكوينتين تارانتينو، و"الجوكر" (2019)، لتود فيليبس، و"الأيرلندي" (2019)، لمارتن سكوسيزي. هذا حصل عام 2023، حين صمدت أفلام أثارت نقاشات في الموضوع والأسلوب.
حقّقت أفلام "باربي" و"أوبنهايمر" و"مهمة: مستحيلة 7"، صيف 2023، مداخيل تجاوزت 3 مليارات دولار أميركي في القاعات. بذلك، غطّت على أخبار أفلام المهرجانات، التي تتوِّجها لجان تحكيم لا يتجاوز عدد أعضائها عدد أصابع اليدين. حقّقت هذه الأفلام، المعروضة في القاعات، للجمهور الذي يُصوّت بنقوده، ربحاً، وأثارت نقاشاً ممتداً في المجتمعات المختلفة. دعم "باربي" الحركة النسوية، ومجّد بطلة نسوية تختار رجلاً على مقاسها، يلبس الوردي، ويحملها فوق كتفه، ويسير بها. جاء تتويج غريتا غيرويغ، مخرجته، من حيث لا يتوقّع أحد.
استنجد مهرجان كانّ لسينما المؤلّف، التي لا تُعرض أفلامها في القاعات، بمخرجة حقّقت رقماً قياسياً عام 2023 في القاعات السينمائية العالمية، بفضل "باربي": مليار و441 مليوناً و819 ألفاً و187 دولاراً أميركياً. هذا يطرح سؤالاً مُحرجاً عن الخطّ التحريري لـ"كانّ": لماذا يحتاج مهرجان نخبوي، يُقدّس الأسلبة ويتجاهل الجمهور، إلى تعيين مخرجة، قدّمت فيلماً جماهيرياً، رئيسةً للجنة تحكيم المسابقة الرئيسية في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024)؟ لأنّ قانون السوق أقوى من مزاج اللجان الصغيرة. يتفوّق الفيلم الجماهيري على فيلمٍ حاصل على جائزة من لجنة فيها 7 أفراد، ثم يبقى في حاسوب مخرجه، ولا تشتريه منصات البثّ.
ما مقاييس تقييم الفن السينمائي؟ يجيب إريك هوبزباوم: "تغيّر معيار الحكم على الفن، فلم يعد الجيد والرديء، أو المعقّد والبسيط، بل ما الذي يستهوي العدد الأكبر من الناس" (عصر التطرّفات، ترجمة فايز الصُياع، المنظّمة العربية للترجمة، بيروت، ط. 1، 2011، ص. 885).
سيخلق هذا السياق الجماهيري جدلاً بين المنتج والمخرج. مُنتج يبحث عن فيلمٍ للشعب، لتحقيق عائدات في شبّاك التذاكر؛ ومخرج يريد فيلماً يحقّق له المجد في المهرجانات، وبين سينيفيليين. السينما صناعة مُكلفة، وتحصيل المال ليس سهلاً. لكنْ، ليس سهلاً أيضاً صنع فيلم للجماهير وللمهرجانات النخبوية.
تاريخياً، كانت حكايات "ألف ليلة وليلة" أشهر من "مقامات الحريري"، رغم التفوّق اللغوي لـ"المقامات"، المتحذلقة أسلوبياً. تنطبق هذه القاعدة على الأفلام أيضاً.
في ختام جردة حساب هذه السنة السينمائية، عامةً وشخصياً، أسجّل أنّه عالمياً استمرّ تمدّد منصة "نتفليكس"، التي استقطبت أكثر من 8 ملايين مشترك جديد، يبحثون عن أفلامٍ حية تخاطب الجماهير المتنوّعة. هذا يفسّر الكثير عن طبيعة الفنّ في عصر الجماهير. عصر الأكثر مُشاهدة.
مغربياً، لم تُلغَ المهرجانات السينمائية، رغم الزلزال وحرب غزّة. حصلت المخرجة الشابة أسماء المُدير على "النجمة الذهبية" في الدورة الـ20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، عن "كذب أبيض"، الذي بلغ اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (النسخة الـ96 تُقام في 10 مارس/آذار 2024). في الدورة الـ23 (27 أكتوبر/تشرين الأول ـ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، نال "أبي لم يمت" لعادل الفاضلي 5 جوائز، منها "الجائزة الكبرى".
إدارياً، استعاد طارق خلامي موقعه في إدارة "المركز السينمائي المغربي" كمساعد مدير. الشاب خلامي صلة وصل بين الإدارة السينمائية وسينفيليي المغرب.
على صعيد تعليم السينما، عين محمد مهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، المخرجَ حكيم بلعباس مديراً جديداً لـ"المعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما" في الرباط. يعمل بلعباس حالياً على تجديد برامج المعهد، لزيادة تأثيره في المشهد الثقافي المغربي.