كارلوس يوري سونينك (2/ 2): "فيلمي تجربةُ تمرُّنٍ على التواضع"

18 نوفمبر 2024
سونينك والمنتج نايغيمي غلاسغو ـ مايديا في كولونيا 2024 (جوشوا سامّر/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تم تصوير الفيلم بين 2019 و2022 في فترتين رئيسيتين، مع تحديات بسبب جائحة كورونا وتنوع الفصول في الرأس الأخضر.
- يتميز الفيلم بحكايات غامضة وشاعرية، مع استخدام أصوات نسائية وقصص أهالي القرية لإضفاء أصالة وعمق فني، ويعكس محاولات للحفاظ على التراث الثقافي.
- اعتمد الإخراج على التعاون الوثيق والحرية التعبيرية، مما أضاف واقعية وشاعرية، بينما ساهمت الموسيقى واللقطات البطيئة في خلق تأثير منوّم وجذّاب.

(*) عندما بدأ التصوير، أكانت لديك فكرة عن الوقت الذي ستحتاج إليه لمقاربة الموضوع؟

في الواقع، أدركت فوراً أنَّ علينا تنويع مواعيد الذهاب والإياب إلى الجزيرة، بحسب الفصول. في الرأس الأخضر، لا يوجد سوى موسمين: جاف وأمطار. كان علينا اتّباع التقويم السنوي لتنويع أجواء الفيلم. لكنّي اقتنعت سريعاً أنّ علينا تسريع الأمور، لأنّنا بدأنا نشعر بهشاشة الرجل، وبأنّه ربما يُقرّر في أي لحظة أنْ يغادر إلى القرية العامرة. ثم وقع حدثٌ مهمّ جداً، رغم أنّي أوردته بشكل متوارٍ قليلاً: كورونا.

بدأ التصوير نهاية 2019، ثم أمضينا وقتاً مع كيرينيو. في الاستعداد للفترة التالية للتصوير، "بوووم"، إنّه كورونا. رغم ذلك، كنا نشعر أنّه بعيدٌ جداً عنّا. بالنسبة إلينا، إنّه الصين وأوروبا، ونحن في جزر. أقول غالباً إنَّ انتماءنا إلى جزر معزولة يترتّب عنه مزاج وطريقة تفكير خاصة، مقارنةً بالمنتمين إلى البرّ القاري. رغم أننا نعيش على بعد 500 كيلومتر فقط من البر، فبالنسبة إلينا، نحن نقبع في أقصى العالم.

قصة كيرينيو تمثّل رمزياً هذا الجانب أيضاً.

 

(*) كم دام التصوير؟

من 2019 إلى 2022. ثلاث سنوات. قطعنا الطريق بالطائرة ذهاباً وإياباً مرات عدّة، في فترتين رئيسيتين: كيرينيو هناك، وحيداً في قرية الأشباح، ثم التحاقه بالقرية المجاورة، ليعيش في منزل أخته، وذهابنا إلى هناك لتصويره.

 

(*) الصوت المسموع في مرحلة معينة من الفيلم عائدٌ إلى أخته. لكنّ الصوت الأنثوي الآخر، الذي يروي قصة قرية الأشباح، لمن؟

هناك صوت آخر لسيدة تروي القصة بنَفَس شاعري. هذا مهمّ، لأنّي أردت سرد حكايات تجلب عناصر غموض كثيرة للفيلم. بالنسبة إلي، هذه طريقة للإشادة بفنّ رواية القصص. الفيلم يُجسّد أيضاً محاولة التقاط الأشياء الزائلة، كالطفل الذي يصنع سيارات خشبية صغيرة، ويلهو بها. كنت أفعل ذلك عندما كنت في سِنّه، لكنّ ابني لا يعرف ذلك. هل تتذكر الموسيقى في مشهد حفل الرقص الليلي؟ إنّها تُدعى "لاريبيكا"، والمعتاد في الجزيرة أنْ يرقص الناس عليها طوال الليل. هذا أيضاً في طور الاختفاء. عند تصوير هذا المشهد، كنت أتبادل النظرات باستمرار مع مدير التصوير ومهندس الصوت. كنا جميعاً متأثرين جداً.

 

(*) ماذا عن التعليق الصوتي؟ هل كتبت جزءاً منه؟

لم أكتب شيئاً. كلّه من وحي أهالي القرية. طفلاً، اعتدت التحلّق حول أجدادي، مع أبناء الإخوة والأحفاد. كانوا يروون لنا القصص. لكنّ هذه الأشياء تختفي. لذا، عندما التقيت السيدة الحكّاءة، قلتُ لها: "سيدتي، أريدك أنْ تحكي لي قصة المآسي التي أصابت قرية الأشباح"، ففعلت بكل بساطة، كما في الفيلم. روت قصة الرجل والطفل، ثم الصخرة. وضعت صوتها في الفيلم، كما لو أنه ينبعث من الراديو الذي اعتاد كيرينيو الاستماع إليه دائماً في عزلته.

 

(*) ماذا عن كتابته، بالمعنى الدقيق للكلمة؟ هل تمّت بموازاة التصوير؟

بالنسبة إليّ، يمثل الفيلم تجربة للتمرّن على التواضع. كانت لدي بنية دقيقة للغاية لكتابته، مع انتقالات وكلّ شيء. لكنّ النسخة النهائية مُتشظّية للغاية، تنتمي إلى وثائقيّ المونتاج تقريباً. في لقائي المونتير، أخبرته بما أريده بالضبط، وفق تخطيطي المُسبق. ثم أجرينا تجربة. إلى الدقيقة 15، كانت الأمور على ما يرام. بعد 30 دقيقة، بدا أنْ لا شيء يشتغل. نظر كلّ منا إلى الآخر، ثم تخلصنا من كلّ شيء، وبدأنا من الصفر مُجدّداً.

 

(*) هل كتبت البنية التي حاولت صنع المونتاج وفقاً لها في البداية، قبل التصوير أم أثناءه؟

قبله وأثناءه. كانت هناك فقط فكرة تنويع الفصول، وتقفّي روتين كيرينيو. الإشكالية في التصوير أنّنا لم نكن نعرف ما إذا كان سيغادر يوماً ما إلى القرية العامرة، أمْ لا. في يومٍ، غادر فجأة، وكان علينا أنْ نتبعه. كان التصوير مشروطاً بأحداث غير مؤكّدة.

 

(*) ماذا عن الإخراج، خاصة التكوين الرائع للإطارات، إذْ نشاهد لقطات عامة للقرية بصفتها عالماً مستقلاً، لكنْ أيضاً لقطات أخرى مُقرّبة جداً لوجه كيرينيو، ولإيماءاته وقدميه؟ أكان أسلوب التصوير واضحاً ومُحدّداً منذ البداية مع مدير التصوير، أمْ كان عليك التقاط الأشياء بطريقة أكثر عفوية؟

شكراً على السؤال، لأنّي أعزو فضلاً كبيراً إلى مدير التصوير. إنّه قريبٌ جداً مني، فنياً. اعتمد المشروع كثيراً علينا نحن الاثنين. بما أننا عملنا معاً من قبل، لم نحتَجْ إلى التحدّث كثيراً. صراحة، في المونتاج، أدركت، المونتير وأنا، أنّ الفضل في حصولنا على فيلم طويل يعود إليه أولاً. هناك لحظات أساسية التقطها وفق حدسه، شكّلت العمود الفقري للفيلم. كما أنّ تمضيتنا وقتاً كثيراً في الجزيرة غيّرت كلّ شيء. نمنا في منزل كيرينيو. أمضينا لياليَ عدّة في قرية الأشباح. كنا نذهب بسجاداتنا إلى منازل مهجورة، وننام فيها. لم نكن مستعجلين. نضع الكاميرا، ونجلس جانباً، ونراقب ما يحدث.

سأعطيك مثلاً. مشهد حلق كيرينيو لحيته أكثر اللحظات حميمية في الفيلم. في الواقع، لم أكن هناك عند حدوثه، بل في الوادي، مع تقنيّ الصوت، منهمكاً في التقاط أصوات من البيئة. عندما عدت، قال لي مدير التصوير: "لن تصدّق ذلك. كنت مع كيرينيو، والتقطت أشياء مُذهلة". بعد عودتي إلى المنزل، استخرجت المشهد، وذهلت لصدق ما صُوِّر. لا أعرف ما إذا لاحظتَ أنّ كيرينيو كان ينظر إلى الكاميرا كثيراً. رغم أنّنا عشنا معاً أشهراً عدّة، لم ينسَ وجود الكاميرا، كما يقول مخرجو الوثائقي عادةً. في الواقع، كان يبحث عنّا بنظراته من وراء الكاميرا باستمرار، كما يبحث المرء عن عيون أصدقائه. في مرحلة معيّنة، أزعجني ذلك قليلاً. في المونتاج، كنت أميل إلى حذف تلك اللقطات، لأنّ هذا تعلّمناه في المدرسة: النظر إلى الكاميرا غير محمود. لكنْ، بعد ذلك، قلتُ: "لا. هذا جميل جداً في الواقع". إنّه يخلق تواطؤاً مُميّزاً مع المُشاهد.

 

 

(*) إنّه يخلق تأثيراً وشفافية مع الشخصية. لكنّك كونك مخرجاً تبقى مُبهماً. لا يُسمع صوتك أبداً عند طرحك الأسئلة مثلاً. أهذا قرارٌ اتّخذته منذ البداية؟

نعم، منذ البداية.

 

(*) أكان مردّه الحفاظ على انطباعٍ بأنّ كيرينيو رجل منعزل في عالمه؟

نعم، جزئياً. لكنْ، بصراحة، حتى لو كانت لديّ فكرة أنْ أجعل صوتي مسموعاً، أعتقد أنّ اللحظة التي وصلت فيها إلى قرية الأشباح كانت ستطردها من رأسي تماماً. لأنّك تسمع صوت البحر كلّ الوقت هناك، وباستمرار. كان علينا المحافظة على هذا الجوّ. في الواقع، هذا فيلم بسيط للغاية.

 

(*) بسيطٌ لكن ممتنع، كما يُقال.

نعم. لكنّي لم أسع إلى شيء كبير أو مُعقّد، لأنّي لا أملك القدرة على ذلك. أردت دائماً إبقاءه بسيطاً وازدواجياً في طرحه. رجل وامرأة. موت وحياة. البحر بمثابة لحظة بياض، ثم حجارة بركانية سوداء. غالباً، تتّسم المشاهد بالازدواجية.

 

(*) ربما هذا أحد الأسباب التي حَبَت الفيلم بتأثير منوّم وجذّاب. عند نقطة معينة، نندمج فيه كلّياً. للموسيقى هذا التأثير أيضاً، خاصة في اللقطات البطيئة في أعالي البحار.

هذا مهمّ. أتذكر أنّي مرّرته لفريق العمل. قلتُ لهم: أريد أخذ كلّ عناصر الواقع، وتحويلها إلى حلم. هناك لحظات فانتازية. كنت واثقاً أنّي راغبٌ في صنع فيلمٍ بشعور شخص يستيقظ من حلم ولا يتذكره. يتذكر فقط أحاسيس انتابته: "في لحظة ما، ركضت لأنّي كنت خائفاً، وشعرت بانشراح عندما رقصت".

يعمل الفيلم بشكل أفضل مع أشخاصٍ يشاهدونه ثانيةً، لأنّهم يشعرون كأنّهم رأوا الحلم نفسه مرتين، فباتوا يتذكّرونه. كيرينيو نفسه يتحدّث عن الحياة بصفتها حلماً.

 

(*) عندما يقول أشياء كهذه، هل كنت تمنحه حرية قول ما يريد، أم تطرح عليه أسئلة محدّدة؟ فالسؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهن أي شخص يريد إنجاز شيء مثير: "لماذا بقيت هنا بمفردك منذ 40 عاماً"؟

لأكون صادقاً، إنّها الطريقة التي انتهجتها في البداية. أسئلة وأجوبة كلاسيكية. لكنْ، في مرحلة ما، كان لديّ ردّ فعل لا إرادي، فقلت: "حسناً، سأضع مسجّل الصوت "زووم"، وأتركه يتحدّث". لحسن الحظ، هناك لحظات أطلق فيها كيرينيو العنان لنفسه وتحدّث بحرية. معظم ما تسمعه يأتي من هناك. صوّرت الكثير، لكنّي أعتقد أنّي أجريتُ جلستين فقط لتسجيل الحوار. بعد ذلك، عند استماعي إلى النتيجة، فوجئت باجتياح صوت البحر الهادر والرياح لصوت كيرينيو، حتى أضحى غير مسموع أحياناً. استغرق الأمر وقتاً طويلاً لتنظيف شريط التسجيل. لكنْ، بفضل تقنيي ما بعد الإنتاج، الذين أنجزوا عملاً رائعاً، تمكّنت من استعادة أكثر من 70% مما سُجّل، بعد اعتقادي أنّ كلّ شيء ضاع.

 

(*) هناك مقاطع شاعرية جميلة: تشبيهه الحياة بدورات الزراعة ثم الحصاد. في لحظة معينة، "لا يعود لديك وقت لتزرع فتموت".

يمكنك أنْ تتخيّلني وأنا أستمع إلى هذا. شكراً لك، لأنّ هذا أفضل مثلٍ. إنّها الكلمة الأخيرة لكيرينيو. كما لو أنّه يتحدّث عن موته. بالنسبة إلي، بديهي أنْ ينتهي الفيلم هكذا. لم يعد هناك كلام يقال بعده. الموت؟ إنّه اليقين الأعظم، كما يقول كيرينيو.

 

(*) هذا أشبه بـ"كوسموغونيا" فريدة للوجود، أو ميثولوجيا جديدة. من هنا، ربما كان العنوان "الرجل الجديد".

نعم، شكراً لك مجدّداً. العنوان مهم. لا أحب شرح الأشياء كثيراً، فالأمر لي تساؤل أشاركه، أكثر من كونه إجابة، أتركه للجميع ليتداولوه. كثيرون يتقاسمون معي تأويلات مختلفة، بقدر ما أنّها حقيقية بشكل لا يصدق.

المساهمون