مراد قاسم في إيوان "العربي الجديد"... عن رمضان وأمل المعمورة الفاضلة

12 ابريل 2023
مراد قاسم
+ الخط -

لا تفتأ الأيام تطرح علينا الأخبار والمناسبات في حركة دائرية لا تتوقف. ومن أجل أن نلتقط بعض ملامح المعنى من الراهن المفلت، يستضيف موقع "العربي الجديد" في سلسلة حوارات "إيوان" مثقفين لنستمع إلى قراءاتهم وأفكارهم في يوميات مجتمعاتنا، وفي الأثناء يتحدثّون عن صنعتهم الإبداعية.

عن رمضان، وتحوّلاته الثقافية بما هي تحوّلات اجتماعية، يُحدّثنا الباحث التونسي في الفلسفة الإسلامية مراد قاسم. حديث يمتدُ إلى ملامح من عوالم مؤلّفاته، ومنها نذكر: "السياسي والعصيان الميتافيزيقي: قراءة فارابيّة"، و"الغزالي وسياسة الحقيقة: الإحراج الميتافيزيقي ورهانات التأويل، و"صورة الفيلسوف في مقابسات أبي حيّان التوحيدي، و"العمل: العدالة والنجاعة"، و"أكون آخَرَ أو لا أكون، و"التواصل والأنظمة الرمزية".



■ كيف ترى تغيّر رمضان من زمن إلى آخر؟ بعبارة أخرى كيف تجد تحوّلات مجتمعاتنا من خلال تغير السلوكيات والتعبيرات الإبداعية في رمضان؟

يُجسّد شهر رمضان فضاء ممارسة دينيّة مخصوصة (الصيام) ومناسبة لتنمية الجانب الرّوحي لدى المؤمنين، وهو شكل من أشكال المُصالحة مع الذات التي تُقدّر أنّ التنمية الإيمانيّة هي حدّ من حدود المعيش المُستقيم ووجه من وجوه مصالحة الرغبة في الحياة مع الإقبال على الموت، مُقاومة لكلّ مُعوّقات الاستمرار المُطمئن كالقلق والخوف ومشاعر الكآبة. والمؤمن يُقدّر بذلك أنّ الحياة تكتسب معناها، وهي جديرة بالإنسان وعكسيّاً هو جدير بالاستمرار فيها عن وعي، عبر تنميته للجانب الإيماني فيه.

ولكنّ التحوّلات الاجتماعيّة، الناجمة عن تزايد حاجيات الإنسان (فرداً أو جماعة) وما أفرزته من تقاربٍ بين شعوب وثقافات مختلفة، تقاربٌ حَكَم وِصاله البُعد التكنولوجي وما اتصل به من عالم افتراضيّ ورقميّ حوّل العالم المُتّسع قرية تتلاقح فيها العادات والأعراف والعقائد ومتطلّبات الوجود بالنسبة إلى الكلّ دون استثناء؛ فكان لهذه التحوّلات المجتمعيّة وانعكاساتها على الأفراد التأثيرُ المباشر على الحيّز الإيمانيّ للمسلمين، فأفضى ذلك إلى تغيّر آليّ للمؤمن بموضوع إيمانه وتعدّدت تعبيراته الرّوحيّة وتنوّعت، فانكشفت بسبب من ذلك ظواهر إبداعيّة روحيّة في الموسيقى وفي فنون الرسم وكذلك في الأعمال السينمائيّة.

وما يثير انتباهنا هو أنّ ما قدّر سابقاً شهر عبادة صرفة استحال اليوم مناسبة احتفاليّة يرى فيها المؤمن وجاهة اقتضاها العصر. وبمعزل عن تقويم أخلاقيّ لماضي الممارسة الإيمانيّة وحاضرها، وهو تقويم لا أعتبره وجيها وليس له من ضرورة، فإن التساؤل عن مدى محافظة المؤمن على تنمية البعد الروحي فيه يبقى قائما إزاء التحوّلات المجتمعية والثقافيّة الحاصلة بسبب من التقدّم العلمي والتكنولوجي والتداخل القيمي بصفة أخصّ.   


■ برأيك، كيف يحضر التراث في المنتجات الفنية الحديثة من دراما وروايات تاريخيّة؟ وهل أنت راض عن الصورة التي تبلغ عرب اليوم عن تراثهم؟

حضور التراث في المنتجات الفنيّة الحديثة من دراما وروايات تاريخيّة هو حضور باهت ولا يمكن أن يُعدّ وثيقة تأريخيّة ترصد تاريخاً أو ينقله على قدر من الالتزام العلمي. ذلك أنّ حرص أصحاب الأعمال الفنيّة على أولويّة الجانب التقني والجمالي يحيل ضرورةً البُعدَ المضموني على الهامش، بل يبرّر تحريفه وتزييفه كلّما كان ذلك في خدمة العمل الفنّي. وتقديري الشخصي أنّ معرفة التراث مشروطة بقراءة المصادر وعقد المُقارنات بينها.


■ تعددت مؤلفاتك في السنوات الأخيرة حول الفلسفة الإسلامية، ما الذي أغراك باختيار هذا الحقل المعرفي للكتابة عنه والتفكير ضمن مشاغله؟

مُحفّزات كثيرة دعتني إلى الفلسفة الإسلامية، أوّلها أهمّيتها التاريخيّة، باعتبارها تتوسّط مرحلتين: الفلسفة القديمة، من جهة، والفلسفة الحديثة، من جانب آخر. وهو ما يُفيد منطقيّاً أنّ تلاقحاً حدث بالضرورة فيها بين المراحل التاريخيّة الثلاث من زاوية النقل الفكري والثقافي ومن جهة ما حدث، فعليّاً، من تقاطع وثراء بين ثقافات مختلفة وبين نماذج فلسفيّة لا يلغي التباعد الزمني بينها إمكان تقاربها وتفاعلها رغم الوعي بالاختلاف القائم كتحصيل حاصل. لذا لا يُشكلّ الاهتمام بتاريخ الفلسفة اختصاصا محنّطا، بل هو الانشغال الذي يدفع الباحث إلى ضرورة الوعي بماضي المعرفة الفلسفيّة وشكل تقبّل مستقبلها لها.

أما ثاني المستويات فهو ما أسميه بـ"الإهمال والتجريح"، فمما يُحفّز ويغري، في آن، بالتفكير في الفلسفة الإسلاميّة هو ما انصرف إليه بعض النقاد من المستشرقين ومن العرب، أيضا، إلى إحدى السيّئتين: فالبعض يلغي كلّياً هذه المرحلة من التاريخ ويختزلون في تأريخهم للمرحلة الوسيطة فيقصرونها على الفلسفة المسيحيّة فقط. في حين يميل آخرون إلى الاعتقاد بأنّ الفلاسفة المسلمين ليسوا إلاّ مجموعة من اللصوص المحترفين الذين لم يفعلوا غير نقل الفلسفة اليونانيّة ونسبوها لأنفسهم بتوسّل الترجمة.

أخيراً، أشير إلى خصوصيّة الفلسفة الإسلاميّة الوسيطة: يتمكّن القارئ الرّصين من التفطّن إلى ما يميّز هذه الفلسفة عن الفلسفة اليونانيّة ففكرة النبوّة، والنظريات الفقهيّة، وتطويع علم المنطق في تجديد الفقه وفي بلورة الفكر الفلسفي السياسي، إضافة إلى قدرة اللسان العربي على نحت مصطلحات ومفاهيم لا صلة لها بالفكر اليوناني، بأيّ شكل من الأشكال، بل هي وليدة اللغة وفضائها الابستيمي والثقافي الذي تنزلت فيه. الأمر الذي شكّل تصوّراً للإنسان ولوجوده في العالم يحظى بالخصوصيّة.

والمثير، أيضاً، في هذه الفلسفة أنّ فلاسفتها لم يكونوا في كتاباتهم متجانسين أو على تطابق بل كانت اختلافاتهم هي ما تسمح لمقارعة بعضهم البعض. فبقدر ما كان الاختلاف بيّناً بين الفارابي والغزالي أثبت الجدال المحموم بين ابن رشد والغزالي اتّساع شقة النظر إلى المسائل، وإنْ كانت مواضيع التفكير واحدة. فكانت هذه الفلسفة ثريّة، بالفعل، مفهمة ومنهجاً ومضموناً. والقصد إنّ ثراء الفلسفة الإسلاميّة بيّنٌ لمن يقرأ النصوص عن أصحابها مباشرة.


■ لو تقدّم لقارئ لم يتعرف عليك بعد عملاً من أعمالك تعتبره الأقرب إليك...

لكلّ مؤلّف يخطّه كاتبه أهمّيته لديه. ولكن يبقى المكتوب الذي يحوي طابعًا غير مألوف أو إبداعيّ هو الأقرب إلى صاحبه. لذا يُمثّل كتاب "صورة الفيلسوف في مقابسات أبي حيّان التوحيدي" الأقرب إلى النفس لأنّ هذا الاهتمام غير مسبوق من حيث الموضوع، من جهة المفهمة والمنهج أيضا. فضلا عن خصوصيّة استنباط الفلسفي من عمل عُرف تاريخيّا بطابعه الأدبي.

وأفضل تعريف بهذا المؤلّف صورة الفيلسوف في مقابسات أبي حيان التوحيدي هو ما تفضّل به المعلّم الفاضل مشير باسيل عون في تصديره له. ومن قوله: "يدفعنا (هذا الكتاب) إلى استعادة تأويليّة تجديديّة ابتكاريّة. ذلك أنّ كتاب المقابسات منجم ثمين من الألفاظ الفلسفيّة العربية الأصيلة التي نحتاج إليها اليوم في التعبير عن مكنونات الاختيار الوجودي المتنوع وإفصاحات الفكر الفلسفي المعاصر. الحقيقة أنّنا لن نقوى على مواكبة الحراك الفكري الكوني والمشاركة الندّية في مناقشاته ومباحثاته وفتوحاته وابتكاراته ما دمنا نعجز عن هضم الموروث اللغوي العربي واستدخاله في وعينا المعرفيّ حتى نؤهل تأهيلا سليما للتعبير الأنسب عن اختيارات الإنسان في مجتمعات القرن الواحد والعشرين المتلاقية المتفاعلة المتدافعة.

قرأت كتاب الصديق مراد قاسم فأعجبني فيه الأسلوب والنهج والتناول، وسرّني العزم على إحياء نص التوحيدي إحياءً يراعي مقتضيات التفكير الفلسفي الابستمولوجيّة المعاصرة. لذلك ما ترددت البتة في إنشاء التصدير هذا لأبيّن للقارئ العربي منافع الإقدام على مثل هذا الاجتهاد الفلسفي الجريء. ذلك بأنّ قرّاء النصوص الفلسفية العربية القديمة غالبا ما تسقط في محنة الخشية التأويليّة والرّهبة السلطانيّة فيكتفي المفسرون بالتكرار والاستيضاح والاستبيان، ولا يجرؤون في أغلب الأحيان على الإتيان بتأويل تجديديّ انتهاكيّ إبداعيّ يحيي النص ويستخرج منه قابليته المغنية الدفينة".


■ من الشخصيات التراثيّة التي حضرت في مؤلّفاتك نجد الفارابي، حدّثنا عنه وخبرنا كيف لنا أن نستفيد منه حاضراً؟

تأثير الفارابي لم يقتصر على ابن سينا في المشرق الإسلامي، بل كان تأثيره على المفكرين اليهود في الغرب الإسلامي وعلى المسيحيين اللاّتينيين، أيضأ. وقد انكشف ذلك في الأثر الذي تركته قراءة الفارابي التوفيقية بين المعلمين، أفلاطون وأرسطو، على التقاليد اللاتينية اللاحقة والتي ظهرت بالأخص لدى "ألبير الكبير".

وفضلاً عن كونه أنزل النظرية الأفلاطونية إلى الأرض، تميز الفارابي بخصوصية فكره السياسي وقد مثل كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" المؤلف الرئيس في السياسة والنموذج الأبرز للتعبير عن تلك الخصوصية في احتوائه للتصوّر الأفلاطوني في فكرة الفيلسوف-الملك فضلاً عن فكرة النبوة المميّزة لدى المسلمين. وعندما نقول مع مؤرخ الفلسفة الفرنسي آلان دي ليبرا أن جدارة الفارابي الفلسفية لا جدال فيها فإنّنا لا نعزل هذه الرّوح الفلسفيّة في إطار تدشين ميتافيزيقا الخلق، بحسب عبارة دومنيك أورفوا، ولا نحصر هذه الكفاءة الفارابية في سياق تأسيسه لفلسفة سياسية إسلامية مثلما يدل عليه عنوان مؤلف محسن مهدي وإنما ننظر إلى فلسفة أبي نصر الفارابي على أساس أنّها فلسفة جامعة مانعة.

هي جامعة لأنّها جمعت الأرضية الميتافيزيقية والأرضية السياسية على نحو ائتلاف وارتباط وتعاضد في التكوّن والوظيفة والمنزلة لكلّ أجزائهما وهي مانعة لأنها منعت كل الحدود التي يمكن أن تفصل السياسة عن الميتافيزيقا وعن علم المنطق وعن الفيزيقا وعن الأخلاق وعن الموسيقى.

وفضلاً عن ذلك فإنّ ما يفيد الإنسان المعاصر من فلسفة الفارابي نزوعها إلى الكونيّة فالمدينة الفاضلة لا قيمة لها إلاّ من حيث انفتاحها على المعمورة الفاضلة. فقيمٌ من جنس الحق والعدل والمساواة والشرف والفضائل الأخلاقية ليست رهينة مدينة بعينها وإنما هي ما تحكم الوصال بين البشر جميعاً، دون حصر أو قصر، إنّها ذاتها السلم الكونية المؤسّسة عبر دستور عقلي خلنا كانط وهابرماس مشرّعين لها، فإذا للفارابي أسبقية التشريع وأولويّة التنظير. وكم نحن بحاجة إلى عالميّة تلك القيم اليوم على مستوى النظر والعمل في آن.


■ من هذا الاشتغال بالفلسفة الإسلامية، رشح لنا فكرة أو مفهوماً ترى أنّه من المفيد أن يصل شريحة واسعة من القراء؟

كثيراً ما تغيّر القراءات مواقفنا وزوايا النظر إلى المسائل التي ننشغل بها. ولذلك تتحيّز المفاهيم والأفكار الكبرى مقامها بحسب موقع صاحبها من القراءة. أمّا في هذه اللّحظة فإنني أدعو الطلبة والقرّاء والمهتمين بالفلسفة الإسلامية والفلسفة الوسيطة بشكل عامّ إلى "تجاوز كآبة مُؤوّلي الفلسفة في العصر الوسيط"، تشريحاً يلتزم بقراءة النص دون وسائط، ويُحكم التمييز بين التأويلات المختلفة لها. ويظل المفهوم الأرسطي والفارابي هو الأبرز: "التعقّل" وهو الموافق لحكمة النظر والعمل. فلا يكون العمل مقبولاً أو ذا صلاحيّة ما لم يكن موصولاً بحكمة نظريّة.

المساهمون