دلال البزري في إيوان "العربي الجديد"... عن المسلسلات وهي ترتدي أثواب عصرها
لا تفتأ الأيام تطرح علينا الأخبار والمناسبات في حركة دائرية لا تتوقف. ومن أجل أن نلتقط بعض ملامح المعنى من الراهن المفلت، يستضيف موقع "العربي الجديد" في سلسلة حوارات "إيوان" مثقفين لنستمع إلى قراءاتهم وأفكارهم في يوميات مجتمعاتنا، وفي الأثناء يتحدثّون عن صنعتهم الإبداعية.
عن رمضان، وتحوّلاته الثقافية بما هي تحوّلات اجتماعية، تُحدّثنا الكاتبة اللبنانية دلال البزري. حديث يمتدُ إلى ملامح من عوالم مؤلّفاتها، والتي نذكر عدداً منها: "دنيا الدين والدولة"، و"غرامشي في الديوانية.. في محل المجتمع المدني من الأعراب"، و"مصر ضدّ مصر"، و"مصر التي في خاطري"، و"أخوات الظل واليقين"، و"السياسة أقوى من الحداثة"، و"سنوات السعادة الثورية"، و"دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية".
■ كيف ترين تغيّر رمضان من زمن إلى آخر في حياتنا، خصوصاً مع ارتباط تعبيرات فنية عديدة به، وأبرزها الدراما التلفزيونية؟
ليست قديمة جداً تلك العلاقة بين شهر رمضان والمسلسلات الدرامية. وبصفتها حكايات، هي امتداد طبيعي، "تكنولوجي"، لسهرات "الحكواتي" التراثية، على أشكالها، في المقاهي الشعبية، أو في بيوتات النخبة، أو حواري الأحياء الشعبية. وحتى للمسلسلات الإذاعية الرمضانية الحديثة، وحُكاّئها أيضاً، المهجورة الآن، إلا من قادة الشاحنات الضخمة، ومسافاتهم الطويلة.
في العشرين سنة الأخيرة، تابعتُ المسلسلات وهي ترتدي أثواب عصرها، والنطق بالتيارات الغائمة على سطحه. عام 1999 كانت البداية على ما أظن، ومسلسل "أم كلثوم"، الذي رفع أم كلثوم الى مرتبة القديسين، ونال استحساناً من المشاهدين، ونقداً خافتاً، شفاهياً، من العارفين بطبائعها... وهذا النقد، كان أشد تشويقاً من المسلسل نفسه، لا يصل إلى مسامع الشارع الذي أصبح يرى أم كلثوم في الملامح الطيبة للفنانة صابرين، التي جسّدتها في المسلسل.
ثم انطلقت الآلة، وصارت سنة بعد أخرى، تفيض إنتاجاً. وقد أَفسح لها مجالات واسعة ذاك الاختراع الجديد، الفضائيات، لتنبت أينما كان، وتبثّ في كل الدنيا. هذا النصيب الجديد للمسلسلات الرمضانية، ساعد في تحويل رمضان إلى شهر المسلسلات، كل سنة يزيد عددها، كل سنة يزيد الترقب لـ"خارطتها"، وتنبري الصحافة الفنية في "اختيار" هذا المسلسل، أو "الهجوم" على ذاك.
ويستمر موسم الشهر الكريم بعد انتهاء كل حلقات المسلسلات، فتنظم "الندوات" في أفخم الفنادق، لتكريم النجوم الذين أدوا أدوارا "لافتة ومميزة". وأسئلة تنهال عليهم من الجمهور الراقي عن سرّ موهبتهم وشبابهم الدائم... وتمطّ ندوات التكريم هذه، كما في المسلسلات، "مجموعات" متخصّصة بإقامة حفلات الجوائز والدروع الذهبية توزّعها على الفالحين أنفسهم، أو غيرهم، من أبطال المسلسلات، ليكتمل ما بعد الموسم في المهرجانات، التي لا تبخل بدورها في مديح من أُشبع مدْحاً.
هيصة وضجيج وألقاب وانشغالات... يمتدون أشهراً أخرى بعد رمضان... كل مرة يبلغون ذروة جديدة. هذا الصخب الرمضاني، لحظَه رسام الكاريكاتور الراحل مصطفى حسين في مجلة "الأخبار" المصرية: رجلان يدخنان النرجيلة وهما جالسَان وجها لوجه. والتلفزيون شغال. الأول يرى التلفزيون، والثاني يعطي له ظهره، ويقول لجليسه: "يا ترى... من خُلق قبل؟ التلفزيون أم شهر رمضان؟".
■ هل يمكن أن نقرأ رمضان بوصفه مرآة لتحوّلات المجتمعات العربية وسلوكياتها؟
كانت المسلسلات الرمضانية تمضي في خطى "بيئتها"، انطلاقاً من فكرة أن الذي يُقال، أو يُقام في رمضان محسوب أخلاقياً اجتماعياً سياسياً... فبعد "الأيقونة" أم كلثوم، كاملة الأوصاف، انهالت الأيقونات الأخرى على الشاشة. أصحاب المواعظ الحسنة من بطلات وأبطال نموذجيين بأخلاقهم ومسيرتهم. تماماً مثل الذي يتوقف عن شرب الخمرة في شهر الصوم، ويخوض في الصيام نفسه، وأحيانا الصلاة والتراويح. ليعود إلى ما كان بعد انقضاء الشهر. على أساس ان هذا الشهر يجب... ينبغي... يفتى... يقتضي...
فكانت "المراحل": وإذا بالتاريخ يفرض نفسه. مسلسلات مثل "الراية البيضا"، أو "ليلة القبض على فاطمة"... بين أوائل الثمانينات وما بعد أواسطه... كانت جذابة، سريعة، مكافحة، "موعظتها" تقتصر على الإنسان بمواجهة أي ظلم، حتى من الإخوة، أو من تاجرة أسماك تسعى إلى شراء مبنى أثري وهدمه، فيكون التصدي لها قوياً ناجزاً... كانت مرحلة تحمل طاقة مقاومة أشكال جديدة من الظلم. انتهت مرحلة آمال الثمانينيات، الخجولة أصلاً. ربما أهلكها انهيار الاتحاد السوفياتي.
وهلت التسعينات على ما سبق وصفه أعلاه، المذكورة آنفا، وطليعتها أم كلثوم.
وبلغنا الألفية الأولى، حيث كانت "الهيمنة الثقافية" هي للإسلام السياسي، رغم ضآلة عدد نوابهم في البرلمان المصري... فكان سطوع النجمات المحجبات، حنان ترك وسهير رمزي، ومعهن رجال توّابون، أرخوا لحاهم ولبسوا الجلباب، وصاروا يتصدّرون مسلسلات رمضان بموعظتهم الحسنة وبحياة بطلهم التي لا تشوبها أية شائبة؛ مثل النجم المستَشْيخ حسن يوسف وزوجته شمس البارودي التي تابت عن بطولات الإغراء من أيام شبابها، هي الأخرى، فارتدت النقاب، وصار لها برنامج ديني على الإذاعة، أو في قناة خاصة، للمنقبات.
في هذا المناخ طلع علينا نور الشريف بمسلسل "الحاج متولي": المتعدد الزوجات، المرتاح، صاحب الحق، الذي استطاع أن يفرض نموذجاً عادياً، طبيعياً، لتاجر أصبح ثرياً، وصار من حقه أن يعقد قرانه على من يستحلي من النساء.
كانت نادية الجندي تتابع أيضاً صعودها نحو "المرأة المعجزة"، التي تقهر أمام جبروت الرجال. تتراجع في نصف طريقها الفني، وفي نهايته لا تعرف لمن تسلم الراية، فتستمر في شدّ وجهها، وفي حقنه... ردعاً لمنافسة قد تهبط عليها بشابات مشدودات خلْقة.
بالمناسبة، الحُقن المجددة للشباب فرضت نفسها في تلك الفترة، وكانت من سمات نجومها. الآن، أي بدءاً من العُشر الأول من الألفية، أضيف إليها الرجال، وقد دخل إلى قاموسهم الرشاقة والقوام الممشوق. رغم الاستثناءات مثل يحيى الفخراني الذي ورث يحيى شاهين، وأورث محمد ممدوح. مع الإشارة إلى جهود الأخير الواضحة لشدّ جسمه عبر الرياضة الحديدية.
■ وكيف تجدين المشهد الدرامي راهناً أو في الماضي القريب؟
الآن وتحت حكم العسكر واحتكار المخابرات للغالبية العظمى من إنتاج المسلسلات المصرية، تحت اسم "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامي"... الآن، تبدَّل الوتَر... وساد ما يشبه "النغمات": مثل "محاربة الإرهاب الإخواني"، والحفاظ على "قيمنا الدينية والثقافية"، وأيضاً "مجاراة العصر"...
اختلطت الأوراق وصرتَ تشاهد مسلسلات تشيد بالعسكر والمخابرات، وببطولة نجوم شباب أنيقين وسيمين يرتدون أبهى لباس، ويملكون تصميماً وشخصية نفاذة هدفها إعلاء قيمة الرئيس أو الجيش وسحق الإخوان... ومسلسلات تنادي بحقوق المرأة، بعبارات كليشيهية بائتة، وأخرى "تاريخية" لا تقرأ في المكتوب عنه غير ما يرضي "نغمتها"...
وشهدت هذه المرحلة هجرة مخرجي السينما إلى التلفزيون. وباعتقادهم أنهم سيضيفون شيئا إلى التلفزيون. ولكنهم خُدعوا، وصرت لا تفرق بين المخرجَين: السينمائي والتلفزيوني. والهجرة مستمرة، وآخرها انضمام المخرج اليوسف شاهيني خالد يوسف إلى الركب.
قبل سنة، طرقت بضعة مسلسلات قصيرة أبواب رمضان. من ثلاثين حلقة إلى خمسة عشر. وكانت الحجة المعروفة، من أن الأولى، الثلاثينية، زهق منها المشاهدون، من كثرة المطّ والإطناب. وبأن علينا أن "نمشي مع العصر"، مثل المسلسلات الأجنبية، فنقتصرها.
هذه السنة، كثرت المسلسلات القصيرة، وغشَّتنا. حافظت على المطّ المعهود، ولكن بخمسة عشر حلقة. بدت مشاهدها مقْصوصة اعتباطياً، بعملية مونتاج رديئة ومتسرّعة. وكأن المسلسل في الأصل من ثلاثين حلقة، وجاءت التعليمات بعد انتهاء تصويره، باختصاره الى خمسة عشر حلقة. ما يشبه طريقتنا في "المشي مع العصر": نسرع في محاكاة السطوح والواجهات، ونصدم بعد ذلك بالبيوت، فلا نعرف كيف نسكنها.
أتحدّث عن مسلسلات مصرية، لا لبنانية أو لبنانية-سورية مشتركة، التي درجت مؤخراً. لأن وقت التلفزيون عندي ليس مفتوحاً. فأنا مضطرة لقصر نفَس اهتمامي على الأمتع من مسلسلات رمضان. ومتعتي بهذه المسلسلات المصرية يختلط فيها الإعجاب والألفة، وفهم اللغة المحكية، وفيض "الكاراكتيرات" والشخصيات، والأداء القريب من الحياة.
■ كان المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي أحد الشخصيات الفكرية التي حضرت في منجزك التأليقي، حدثينا عنه وأخبرينا كيف لنا أن نستفيد منه حاضراً في سياق الثقافة العربية؟
غرامشي حضر إلى الفضاء العربي في أوائل تسعينات القرن الماضي. كان على ما أعتقد ضرورياً وقتها لنخبة خيبتها الأحزاب الشيوعية أو اليسارية، فسارعت إلى الاستنجاد بالمناضل الفيلسوف سجين الفاشية، الإيطالي غرامشي من أجل ضخ بعض الهواء النقي إلى إيديولوجيتها، التي خنقها انهيار الاتحاد السوفييتي، فيما هم لا يريدون لها أن تموت.
كان غرامشي قد نحَت بدائل للمفاهيم اليسارية التي أصابها الشحوب. فبدل الحزب الثوري، صار "المجتمع المدني". وبدل المثقف الثوري، صار "المثقف العضوي". وبدل جبهة كذا... أو كيت، صار "الكتلة التاريخية". ورديف النهب الإمبريالي... "الهيمنة الأيديولوجية" إلخ.
وذلك في كل الأوساط، ليس العربية وحسب: ندوات، كتابات، إعادة طباعة الأعمال الكاملة، ترجمة نصوص منسية، ومديح لا ينتهي بقدرات غرامشي الذهنية، بصموده في السجن، بإنسانيته العميقة، البعيدة عن "الفكر الستاليني". ولم يسلم الحاكم الليبي "الثائر" معمر القذافي من غواية غرامشي. فكان أهم الممولين لأنشطة التغنّي بإنجازاته الفكرية.
ولكن أتى وقت، لم نعد نسمع بغرامشي، ولا بفلسفته. هل أننا لم نعد بحاجة إليه؟ هل تبدل العالم والقوى والحسابات والقناعات بحيث أصبح غرامشي فعلاً من زمن آخر، لا تناسب مقارباته عصرنا الراهن؟ هل العالم أصبح على هذه الدرجة من التقلب والسيولة وعدم اليقين، بما لا يسمح لا لغرامشي، ولا لغيره من كبار الفلاسفة في التقاط، ولو خيط واحد، يفهمنا ماذا يدور حولنا وكيف نرى العالم السنة القادمة؟ وليس بعد عشر سنوات، كما كانت تفعل الخطط الخمسية والعشرية؟
مصير كتابات غرامشي يشبه مصير مفهوم عاصر صعوده، هو "الآخر". مثله نالَ هذا المفهوم الإعجاب والتمحيص والتحليل والتاريخ والتماهي، وأفلام السينما (يوسف شاهين "الآخر". 1999)... ومثله انطفأ، "الآخر" تحت ضربات العصبيات على أشكالها. ولم يعد أحد يعقد ندوات من أجله.
■ لو تقدّمين لقارئ لم يتعرف عليك بعدُ عملاً من أعمالك تعتبرينه الأقرب إليك.
الأبعد إلى قلبي هو كتابي الأول "دنيا الدين والدولة". لم أحبه منذ البداية وحتى النهاية. ثقيل وصعب ومكتوب بلهجة أكاديمية مفتعلة. أتذكره احياناً، وأحاول أن أغفر لنفسي، بأنني ارتكبته.
الأقرب إلى قلبي هو كتابي عن مصر "مصر التي في خاطري". كتبته وأنا حرة من كل الاعتبارات، وعلى رأسها الاعتبارات الأكاديمية. كتبته كما لو كنتُ أسبح في البحر. بسهولة وسلاسة. لم يحتج أكثر من ثلاثة أشهر لكتابته. ربما أحبه لأنه رسالة حب لمصر... مهما صار بيننا.
من قراءاتك، لو تقترحين علينا عبارة محبّبة إليك، معنَى وصياغةً...
هي عبارة للفلسطيني إميل حبيبي، في روايته الوطنية-الغرائبية "في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، إذ يقول الراوي في إحدى الصفحات: "ضحكتُ فأضحكني ضحكي". شردتُ في هذه العبارة. سعدتُ بها، وحزنت.
السعادة آتية من أنها تحيلني إلى لعبتي المفضلة مع إخوتي، ونحن أطفال. وتقوم على المنافسة بيننا حول من يُضحكنا أكثر من غيره. فنجلس في شبه دائرة، وتبدأ اللعبة. وعندما يأتي دور أختي الصغيرة في إضحاكنا، تبدأ بالضحك سلفاً. من دون أي جهد "إضحاكيّ" يُفترض أن تقوم به. فتضحك على ضحكها، وتستمر بالضحك، وكأنها تعوّل على إضحاكنا لمجرد أنها تضحك. ولكن في النهاية لشدة ما تضحك على ضحكها، ننهار كلنا في الضحك. وتكون دائما هي الرابحة في لعبة الإضحاك.
أمّا الحزن فعلى الراوي سعيد، "المتشائل". في أول ضحكته ليس له شريك. يلتفت حوله ولا يجد أحداً. إنه وحيد في ضحكته. وبدل أن يستجدي رفيقاً للضحك، يلجأ إلى نفسه، ينفصل عنها برهة، ليراها كما لو كانت غيره، فيجد بضحكتها ما يضحك، فيضحك على ضحكتها. لحظة انفصال عن النفس، يجيدها الراوي، أو البطل، لأنه يعيش وحيداً.