فيصل الأحمر في إيوان "العربي الجديد": عن الخيال والسعادة والسرد الذكي
لا تفتأ الأيام تطرح علينا الأخبار والمناسبات في حركة دائرية لا تتوقف. ومن أجل أن نلتقط بعض ملامح المعنى من الراهن المفلت، يستضيف موقع "العربي الجديد" في سلسلة حوارات "إيوان" مثقفين لنستمع إلى قراءاتهم وأفكارهم في يوميات مجتمعاتنا، وفي الأثناء يتحدثون عن صنعتهم الإبداعية.
عن رمضان، وتحوّلاته الثقافية بما هي تحوّلات اجتماعية، يُحدّثنا الكاتب والباحث الجزائري فيصل الأحمر (1973). حديث يمتد إلى ملامح من عوالم مؤلّفاته، ومنها نذكر: "خزانة الأسرار" و"ضمير المتكلم"، و"وقائع من العالم الآخر"، و"مساءلات المتناهي في الصغر"، و"أفق الدراسات الثقافية".
■ كيف ترى تغيّر رمضان من زمن إلى آخر؟ بعبارة أخرى، كيف تجد تحوّلات مجتمعاتنا من خلال تغيّر السلوكيات والتعبيرات الإبداعية في رمضان من عقد إلى آخر؟
- يعكس رمضان اليوم صورة المجتمع الذي يقف خلفه، كما فعل دائماً.. كان رمضان يعكس نمطاً يمكن وصفه بالبسيط وشبه البدوي من الفرح والاحتفاء، فمنذ نصف قرن، في الجزائر مثلاً، كنا مجتمعاً متماسكاً بسبب الظرف ما بعد الكولونيالي. فخلال العقول الأولى من الاستقلال، كان رمضان مرتبطاً بطابع احتفائي جماعي أذكره جيداً في طفولتي؛ إذ لم يكن ممكناً تصوّر عائلة تقضي سهرتها بمفردها، داخل بيتها، فقد كانت القاعدة هي سهرات رمضانية جماعية لمجموعة من عائلات الحي، أو عائلات العمارة. تشارك كل شيء: الجلسة، وتنظيم الحكي، وتقسيم التجمعات البشرية حسب السن والجنس والتجربة... وهندسة المسامرة أيضاً...
تغيّر كل ذلك، ولكن يبقى -في المطلق- أن لرمضان من جيل إلى جيل نوعاً معيناً من الإحساس، وهو ينتج دائماً شكلاً من الفرح؛ سواء ما ارتبط بأهم شيء فيه؛ وهو كسر نمط الحياة السائد لبقية العام، أو قيمته الدينية التي أراها متجددة جيلاً بعد جيل، وكذلك من حيث ابتكار الأجيال الجديدة لأنواع من الاحتفاء وأنواع من الطقوس، وأنواع كثيرة ومثيرة من "عيش تجربة رمضان".
■ كيف ترى حضور التراث في المنتجات الفنية الحديثة من دراما وروايات تاريخية؟ وهل أنت راضٍ عن الصورة التي تبلغ عرب اليوم عن تاريخهم؟
- بالنسبة إلى فكرة حضور التراث، أعتقد أن رمضان يحتفظ بخصوصية معينة هي خصوصية الدفاع عن نمط معين من النموذج الثقافي من خلال البرامج التلفزيونية التي هي أساساً هذه المسلسلات الدينية، ومسلسلات التاريخ الإسلامي، أو مسلسلات التاريخ بأطيافه المتنوعة التي يحدث لها أحياناً أن تتحرر من التاريخ لتصبح فانتازيات تاريخية؛ أين يصبح الخيال بدلاً من الواقعة التاريخية، والهدف من هذا كله دفع الحرج الموجود في بعض منعطفات التاريخ، وبعض السير، وطريقة كتابتها.
إن هنالك إصراراً على أن يكون رمضان مناسبة لمشاهدة نمط معين من الثقافة العربية الإسلامية، من العلامات الثقافية للطابع العربي الإسلامي، مع حضور محتشم بعض الشيء للتراث المحلي؛ إذ أعتقد أن التراث المحلي هو الغائب الأكبر في هذه المشاهدات الرمضانية، ولهذه الظاهرة تفسير وسياق غير مرتبط برمضان مباشرة، وفي السياق العالمي العولمي يتم إخفاء العلامة المحلية تحت العلامة التاريخية لدوائر أوسع من المحلية. فالتاريخ الإسلامي في هذه الترسيمة هو تاريخ أمة، تاريخ دين، تاريخ لغة، وليس تاريخ مكان معين.
■ من موقع كاتب له مراسٌ بالسرد، كيف تجد الحكايات التي تقدّم للمشاهد العربي عبر التلفزيون؟ إذا قرأتها كخطاب موحّد ما الذي تستشفه من خلالها؟
- دعني أقدم لك إجابة متفائلة قد تتجاوز الكثير من الهنات التي ربما أراها مرتبطة بالتاريخ الثقافي المتراكم للمشاهد العربي الذي تعوّد على رؤية شيء معين فيه قصور تقني ما، ثم ها هو ذا أمام تطور تقني مهول في إنتاج الدرامات التاريخية، فعلى المستوى المشهدي أعتقد أننا ننعم بقفزات نوعية نحسد عليها اليوم، لم تكن موجودة بالنسبة إلى أجيال سابقة، ولكنني أقول إن هنالك غائباً سأسميه: السرد الذكي.
ماذا أقصد بهذا الكلام؟ أقصد نوعاً من الحكايات التي تحتفي بالطابع المركّب للحقيقة. سيلاحظ معي كثيرون أننا غالباً ما نتناول الإشكاليات في الدراما بشكل مانوي، ثنائي، أي في وجود قوى خير وقوى شر، تتصارع لكي ينتصر الخير دائماً، وهذه في الحقيقة نظرة تبسيطية تسطيحية وشبه طفولية للتاريخ وللواقع، فنحن قلما نقدم الشخصيات في إطارها المركب، وهذا ينجح فيه كتّاب سيناريو الغرب، فنلاحظه أحياناً في بعض مسلسلات وبعد البرامج التلفزيونية التي تقف على خلفية سردية قوية، وكذلك على خلفية تقنية قوية، ناهيك عن خلفية ذهنية أيضاً للقصة المقدمة درامياً، لنخلص إلى مشاهدة عروض ذات أبعاد فلسفية، في كثير من الأحيان، وكل هذا يبتعد منه كاتب الدراما العربي بضغط أو إيعاز مستمرين من المنتجين، الذين يعتقدون أنّ علينا أن نحدث المشاهد العربي دائماً كأنه طفل صغير وأشياء من هذا القبيل؛ رؤيةٌ تنتهي إلى إيجاد الكثير من التبسيط، والكثير من الخطية في السرد، رغم التطور التقني الذي ذكرته.
■ من بين الأجناس الأدبية اتجهتَ صوب الخيال العلمي، ما الذي قادك إلى هذه المنطقة دون غيرها من مساحات الكتابة الأدبية؟
- الخيال العلمي نوع كتابيّ شديد الخصوصية. والاهتمام العالمي به وضعنا كعرب قبالة أسئلة وتحديات عديدة تهدف إلى تفسير الظرف التاريخي والعقلي والجمالي الذي يفسّر عزوفنا عنه في المجال العربي. وهذا الأمر سمعتُ كثيراً من زملائي المهتمين بهذا الحقل تحديداً يذكرونه كسبب للتخصص فيه كنوع من ملء الفراغ الكبير، أو كنوع من العمل على أراضٍ عاطلة لم يسبق استصلاحها. وأنا هنا أندرج ضمن هذه الزمرة من المؤسسين.
لقد شعرتُ بكثير من القرف من الواقعية التي هدهدت طفولتي في الثمانينيات. في تلك المرحلة، كان الكتّاب الجدد قد بدأوا، منذ الستينيات، بتجريب كثير من سبل الهروب من الواقعية: الرمزية، التاريخ، السرد الصوفي.. أما أنا فشد انتباهي الخيال العلمي. راقني فيه الجمع بين تجنيح الخيال والنزوع الفلسفي والبعد الافتراضي، والنظري، وطريقته في التلاعب بممكنات المستقبل، والاشتغال على معالم الزمن الآتي. لقد حررني الخيال العلمي من إكراهات كل ما تعلمته سابقاً حول الكتابة وحول طرق تناول الموضوعات التي هي "أدبية" حسبما تعلمت.
الخيال العلمي يشجعك على النظر صوب المستقبل. في نهاية الأمر، الخيال العلمي عندي مغامرة في الكتابة أكثر من كونه نمطاً محدداً محصوراً بالتعبير عن هواجس الغد القريب المتربصة بإنسان اليوم نتيجة لما يعتور العالم من تطوّر علمي، ومن تبدل لأحوال الحياة. والخيال العلمي مغامرة في الكتابة بسبب إمكانات الكتابة الكثيرة التي يمنحها للكاتب من المنطلق الأول الأصلي الرئيسي للخيال.. أليس الخيال في تعريفه القاعدي تفكيكاً للواقع إلى قطع صغيرة ثم إعادة تركيبه حسب استراتيجيات معطاة؟
■ على مستوى الكتابة البحثية، اشتهر اسمك مع إصدار "معجم السيميائيات" (2010) وهو عمل تنطبق عليه مقولة سدّ ثغرة في المكتبة العربية، إذ قدّم المنجز العلمي في مجاله لقارئ عربي. كيف ترى هذا المشروع الآن خصوصاً مع تراكم الكتابات في السيميائيات بالعربية منذ ذلك الوقت؟
- لقد كان مشروعاً جماعياً، وكانت الفكرة المبكرة هي فعلاً ملء فراغ كان مستشعراً ساعتها (2008) على مستوى الطلبة الجامعيين. آنذاك، كنا نشهد انتشار السيميائية كعنوان وانحصارها كمفاهيم. كانت هنالك مشكلة إذن؛ هي ردم الهوة الكائنة بين الوعي النظري العالي للمشتغلين على هذا الحقل، وبين الوعي الجماعي؛ وعي الجمهور، على مستوى القراء. وهذا ما اشتغلتُ عليه مع هذه المغامرة الجميلة.
أما اليوم فقد كثرت الأعمال، وتعمّقت الطروحات. لكي يتحوّل هذا الكتاب الجماعي إلى نوع من كلاسيكيات النوع. لقد صرنا نشهد شيوع الاشتغال على هذا الحقل الثري في الجامعات العربية، ونحصي كثيراً من التآليف التي تعكس واقعاً منهجياً معيناً مال بتطبيقات السيميائيات صوب نوع من ضخ أبعاد تأويلية في طرقنا المعهودة في دراسة النصوص: الطريقة اللغوية أو البنيوية أو الأسلوبية.
■ حدّثنا عن حال السيميولوجيا في العالم العربي اليوم؟ هل ظلّت مجرّد معرفة نظرية أم باتت تغذّي مختلف المجالات الفنية والمعرفية كما يُفترض أن تكون؟
- لقد ذابت السيميائيات اليوم في التخصصات الأخرى. فالحقل السيميائي قد ذاب في حقول من أمثال الموضة أو حقول الاستشارة الفنية أو حقول الإعلام والتواصل وأشياء من هذا القبيل الذي يبدو أن عملها شبيه بعمل السيميائيات؛ فقد تحوّلت التسميات، لكن جوهر العمل هو دائماً تقصي العلامات من أجل استنطاق الأبعاد الغائبة عن هذه البنى، سواء في النصوص، وعلينا أن نستوعب النص هنا بالمفهوم البارتي، فالمنظّر الفرنسي رولان بارت يقول إنه يعد نصاً كل سطح حامل للمعنى، يعني أن الوجه قد يكون نصاً، والغياب قد يكون نصاً، وجسم الإنسان نفسه كما يقول قد يكون نصاً. الكثير من المشتغلين في عدة حقول معرفية يعملون عملاً سيميائياً بحتاً دون أن يسموه كذلك.
■ لو تقدّم لقارئ لم يتعرف إليك بعدُ عملاً من أعمالك تعتبره الأقرب إليك.
- كتبتُ كتابين في السيرة الذاتية، هما "خزانة الأسرار" ثم "سجلات الخافية". وأعتقد أن عمليات كشف المستور، والدلالة على مفاتيح الخزانة، ثم فضح سجلات الخافية، ومختلف عمليات التعري الفكري التي قمت بها فيهما تجعلهما بالضرورة الأقرب إليّ. أما إذا كان السؤال عن الكتابين اللذين أتمنى أن يقرأهما القارئ قبل غيرهما لأجل التعرف إلى عالمي في الكتابة، فسيكونان روايتيّ في الخيال العلمي "أمين العلواني" و"ضمير المتكلم".
■ من قراءاتك، لو تقترح علينا عبارة محبّبة إليك، معنَىً وصياغةً.
- أحبّ تذكير نفسي ببيت أبي تمام الرائع: "ولم تعطني الأيام نوماً مسكّناً - ألذ به، إلا بنومٍ مُشرّدِ". وأحب استذكار تعبير الكاتب الفرنسي جون دورميسون: "شكراً على الأزهار. وشكراً أيضاً على الأشواك!". والقولان يسيران في المسار نفسه صوب المعنى الأدق في عرفي أنا لهاجس عصرنا هذا: السعادة.