محمد النعّاس في إيوان "العربي الجديد": عن رمضان والطفولة والكذبة التي تقتل
لا تفتأ الأيام تطرح علينا الأخبار والمناسبات في حركة دائرية لا تتوقف. ومن أجل أن نلتقط بعض ملامح المعنى من الراهن اللافت، يستضيف موقع "العربي الجديد" في سلسلة حوارات "إيوان" مثقفين لنستمع إلى قراءاتهم وأفكارهم في يوميات مجتمعاتنا، وفي الأثناء يتحدثون عن صنعتهم الإبداعية.
عن رمضان، وتحوّلاته الثقافية بما هي تحوّلات اجتماعية، يُحدّثنا الكاتب الليبي محمد النعاس (1991)، غير بعيد عن عالمه الأدبي وطقوسه. من مؤلفات ضيفنا نذكر: "تاجوريا"، و"دم أزرق"، و"خبز على طاولة الخال ميلاد"، و"مكان لا تجوبه الكلاب".
■ بماذا يرتبط رمضان في ذاكرتك؟ هل لك عادات خاصة للقراءة فيه مثلاً، وهل شكّل جزءاً من تكوينك ككاتب؟
رمضان، بالنسبة إلي، هو موسم العائلة بامتياز. منذ طفولتي وأنا أرى العائلة بكل فروعها تجتمع على سُفرة الإفطار أو للسهر. هو أيضًا شهر ولادتي الهِجري، وُلِدتُ في منتصفه بالضّبط، عندما يأتي كل عام تستغّل أمي ذلك لتعيد عليّ ذكرى ولادتي وتحدّثني عن الظروف التي عاشتها وتتذّكر الطعام الذي كانت تعدّه في فترة الحمل ومن ثمّ تذهب بعيداً لقصّ تلك الطفولة المحذوفة من ذاكرتي؛ تخبرني أيضاً، أنّه وبفضل ولادتي في رمضان، جئت إلى الدُنيا طفلاً مليئاً بالسكينة، لا تسمع لي حسّاً، كل ما أفعله هو النّوم والأكل.
وعندما دخلتُ المدرسة، صار رمضان يرتبط بموسم الدراسة والامتحانات، وبطريقة ما بفصل الشتاء، عندما كبرت أكثر ارتبط بعادة القراءة، أعيد قراءة القرآن الكريم ما استطعت وأعكف على قراءة كل الكُتب التي أجّلتها على مدار العام؛ وبهذا المعنى، وباعتباره جزءاً من خبرتي في الحياة، نعم شكّل جزءاً من تكويني الأدبي، بل أجدني أحياناً، أكثر إنتاجاً فيه من أي شهرٍ آخر.
■ هل تتأمل في تحوّلات سلوكيات الناس في رمضان بين الأزمنة؟ وهل الملاحظة وتأمل التحولات جزءٌ من "صنعة الروائي" لديك؟
سأجيب هنا عن الشّق الثاني من السؤال أولاً وذلك بإجابة بسيطة: نعم. كل ما يفعله الكاتب أو الروائي هو التأمّل والملاحظة، ومن ثمّ يحوّل هذا التراكم المعرفي إلى إنتاجٍ أدبي به يشكّل استنتاجاته ورؤيته للعالم الذي يعيش فيه.
هنا، تأتي مسألة التحوّلات السلوكية، أجدُ رمضان في السنوات القليلة الماضية مختلفاً عن الذي عشته في طفولتي أو حتى شبابي المبكّر. صار الشهر، أكثر من ذي قبل، موسماً مادياً لدى فئات مختلفة من المجتمع الليبي -وهو المجتمع الذي يمكنني أن أتحدث عنه، بما أنّه مجتمعي الذي أخبره-، فتجد الناس في تنافس على وسائل التواصل الاجتماعي، منغمسين في اتباع "الترند" أو "الموضة" الموسمية في الزينة والطبخ وطرق التحضير بشكل مادّي، لا اعتبار في ذلك لما يعنيه رمضان الذي خبرناه.
ورغم أنني لا أحب الحديث والمقارنة بين الأزمان والأجيال، ولكن هذا التوجه المادي لم يكن موجوداً في تسعينيات القرن العشرين ولا حتى بدايات القرن الحالي – طبعاً الأمر له علاقة بسياسات الدولة الليبية آنذاك وتوجهها الاشتراكي-، كان هناك روح ما عند دخول الشهر، كان هناك نوعٌ من التوازن بين التجربة الماديّة والروحيّة للشهر، بل كانت التجربة الروحيّة والاجتماعية تغلب على التجربة الماديّة. الآن، وفي زمننا المتسارع هذا والذي تشكّل فيه شبكات التواصل الاجتماعي محوراً أساسياً في أسلوب حياة النّاس، صارت التجربة الماديّة تتجاوز الروحيّة بمراحل، وهذا أظنّه أمراً مؤسفاً؛ إذ يعني الأمر أنّ رمضان سيصبح مع الزمن، مجرّد موسم رأسماليٍ آخر.
■ تخرّجتَ مهندساً في الكهرباء وهو ما يجعلنا نتساءل كيف قطعت المسافة من هذا الحقل العلمي وصولاً إلى السرد والأدب؟ وما الذي يضيفه المهندس لكاتب الرواية عندك؟
تكرّر هذا السؤال كثيراً في عدّة مقابلات، وكأنّه من قبيل المستحيلات أو النوادر، والواقع أنّه عكس ذلك تماماً، لا أرى فرقاً كبيراً بين تحصيلي العلمي واشتغالي بالأدب. عقل المهندس والكاتب متشابهان كثيراً، كلاهما أمامهما مشاكل ومسائل عليهما حلّها، بل أقول إنّ الهندسة ساعدتني في عملي الأدبي أكثر مما قد أتصوّره، وفي كل مشروع جديد أكتشف تشابهاً جديداً بين المجاليْن.
■ وأنت تنظر إلى المشهد الروائي العربي اليوم، كيف ترى خارطة "استهلاك الرواية"؟ هل يمكن أن نتحدث عن شرائح قرّاء مرتبطة بأجناس أو بأسماء كتّاب؟ وفي كلتا الفرضيّتين: هل يخدم ذلك عملية الإنتاج الروائي أم على العكس يعقّده أكثر على الكتّاب والناشرين؟
كل شيء يدعو إلى قراءة كتاب هو يخدم عملية الإنتاج الروائي. لكل كاتب قارئه، وهذا يُعدّ رحمةً، تخيّل العالم عندما يتفق الجميع على قراءة نفس الكتب ويجرّمون قراءة غيرها، سيكون عالماً أكثر ظلامية من عوالم جورج أورويل.
■ هل تتابع مستجدات الحياة السياسية في ليبيا، وكيف ترى خطوات النخبة السياسية نحو الانتخابات؟
نادراً ما أفعل ذلك، ولا أحبّ الخوض في أحاديث لها علاقة بالسياسة في ليبيا إلا إذا كنت مرغماً، نوعاً ما، على ذلك. ولكن ما يمكنني قوله إنّ ليبيا لم تجد حتى الآن "منقذها" وقد يفوت الأوان ويطول ولا تجده. ليبيا بلد لا يهدأ أبدًا، فهو متحوّل باستمرار، ما أن يطمئن الحاكم فيه على حكمه حتى تأتي عاصفة تركله بعيداً عن السرايا الحمراء. ما زال نفس النمط يكرر نفسه منذ أن اعتلى سيدي أحمد القرمانلي ولاية طرابلس الغرب في 1711.
■ هل يوجد ارتباط، برأيك، بين تعثّر السياسة في ليبيا وواقع الحياة الإبداعية، أدباً وبحثاً، في ليبيا؟
لا، على العكس تماماً، التغيّرات السياسية الأخيرة في البلاد تساعد في تحرر الكُتّاب -إن شاءوا ذلك- من عبودية الدولة والاعتماد عليها، إذ هي فرصة قد لا تتاح لهم في المستقبل القريب في حال عادت البلاد إلى الديكتاتورية التي تراقب حركاتهم وسكناتهم. نعم هناك ديكتاتورية اجتماعية طاغية، ولكن هذه الديكتاتورية لا تملك إلا في النّادر أدوات ملاحقة المبدعين.
■ في أي حقل من المعرفة أو الإبداع، تتجه قراءاتك في السنين الأخيرة؟ وهل يرتبط ذلك بمؤلفات مقبلة تتطلع للعمل عليها أم إن القراءة مرتبطة بمواكبة الحياة الثقافية؟
أقرأ الكثير من التاريخ الليبي والتاريخ الاجتماعي، كما أقرأ في علوم الاجتماع والنفس بالإضافة إلى علوم الدين بين الفينة والأخرى. لا أحب القراءة في السياسة كثيراً، ولكنني أحاول أن أقرأ ما يمكنني، أقرأ أيضاً كتباً عن التقنيات الحديثة، وبالطبع لا تكاد تفارقني رواية أبداً. جُلّ ذلك من أجل المتعة أو الاستزادة المعرفية فقط لا غير، أما قراءاتي في التاريخ الليبي فهي -في العادة- التي ترتبط فقط بمشاريع أعمل عليها.
■ من قراءاتك، لو تقترح علينا عبارة محبّبة إليك، معنىً وصياغةً.
حقيقة، لا أحتفظ كثيراً باقتباسات مما أقرأه. ولكن هناك جملة وردت في مقالة جورج أورويل عن الحرب الأهلية الإسبانية ينعى فيها جندياً كان يقاتل مع الجمهوريين ضد فرانكو، لا أدري لم تذكرني بكل الذين قُتِلوا في ليبيا من 2011 وحتى اليوم، يقول له: "اسمك ومناقبك قد نُسيَت، قبل جفاف عظمك، والكذبة التي قتلتك دُفنت، تحت كذبةٍ أعمق".