هاجس الخلود
تشير عقارب الساعة إلى اللازمان معلنة عن نهاية عهد الطبيعة وبداية حقبة من العجائب والمعجزات. بدأ الأمر برمته قبل بضعة أشهر، بل قبل سنوات عديدة عندما ولد التهامي ولد زبيدة في مكان ما في درب اليهودي بمدينة الدار البيضاء حيث تلتصق المنازل ببعضها البعض ويحلم الناس أحلاماً بسيطة لا تتعدى سقف الاحتمالات الممكنة والمنطقية جداً.
ولد في ملتقى طرق الوطنية والعدمية، وعاش حياة الصالحين دون أن يكون منهم؛ هكذا يعيش معظم سكان كوكب كازابلانكا سنوات حياتهم الأولى قبل أن يصيبهم اليأس بعد وصولهم إلى سن البلوغ السياسي ويفسد عليهم الوعي المفرط متعة الاستغراق في أحلام اليقظة. بعض الأحلام التي يقضي التهامي يومه في ملاحقتها يغلب عليها طابع جنسي بحت، يحارب بها الكبت ويغالب نزوات الجسد التي تسيطر عليه من حين لآخر. نصحته أمه زبيدة أكثر من مرة بأن يتزوج، مضيفة مقولتها الشهيرة "ألف وحدة تتمناك"، لتضفي مزيداً من المصداقية على نصيحتها التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى كمين تنصبه كل أم مغربية لابنها الحبيب طمعاً في رؤية أحفادها قبل أن تصعد الروح إلى بارئها. ولأن القرد في عين أمه غزال، فقد كانت لالة زبيدة تسرف في الثناء على ابنها الوحيد وقرة عينها أمام صديقاتها اللاتي لهن بنات "لم يمددن أيديهن للحناء بعد".
حين التقى التهامي بثينة في مقهى كاليفورنيا، شعر لأول مرة في حياته بأن القدر أنصفه. كان اللقاء بترتيب من نبع الحنان وصديقتها الصدوق، وبالرغم من أنه كان معرضاً عن زواج الصالونات كفكرة إلا أنه استسلم بسرعة لرغبة والدته إرضاء لها، خاصة بعد أن أدرك أن ما من امرأة - ما عدا أمه بالطبع - قد تحبه على سريرته، وأن بحثه المضني عن الحب الأبدي قد يستغرق حوالي العقدين من عمره وهو على مشارف الثلاثينيات من العمر لا يملك الكثير من الوقت ليضيعه في المزيد من البحث.
ولد في ملتقى طرق الوطنية والعدمية، وعاش حياة الصالحين دون أن يكون منهم؛ هكذا يعيش معظم سكان كوكب كازابلانكا سنوات حياتهم الأولى
جاءت بثينة متأخرة نصف ساعة كاملة عن الموعد المقرر، لكن غضبه العارم تلاشى بسرعة بمجرد أن رآها مقبلة نحوه. أشرقت ابتسامته التي كانت نادراً ما تزين محياه وتَبَدَّتْ بشاشته التي لا تظهر عادة إلا مرة في الشهر كلما قبض التهامي راتبه الشهري من عمله كساعي بريد. أما بثينة، فكانت فتاة جميلة يميزها سواد شعرها المجعد وجسمها الممتلئ عن غيرها من الفتيات اللاتي وقع عليهن اختيار زبيدة ليحظين بشرف مقابلة ابنها الوحيد، وكانت - على جمالها - تتقن الطبخ والقيام بكل الأعمال المنزلية. التقى التهامي بثينة عدة مرات بعد أن نالت إعجابه وسكنت فؤاده الذي لم يألف بعد دفء الهيام والطمأنينة التي يبعثها الحب الطاهر العفيف في روح المرء. لا يمكنه أن ينكر أنه قد انتابه الحنين أكثر من مرة لحياة العزوبية وللأيام الخوالي حين كان يبحر في أحلام يقظته بكل حرية ويبلغ الحد الأقصى من النشوة في حدود النزوات والتخيلات الجامحة. أما وهو مشرف على دخول القفص الذهبي، فقد كان يعد نفسه ليحقق أحلامه على أرض الواقع ويحرر الصحراء تحت تشجيعات الأهل والأصحاب، والجيران والأحباب. ولكن ولسوء حظ المسكين، لم يتسن له أن يشن غزوته الأولى كما تمنى مع المرأة التي اختارها قلبه، فقد دهسته سيارة "أودي" كان يسوقها مراهق متهور.
"حادث عمل عارض".. هكذا وصف الشرطي حادثة الدعس الحيوانية التي تعرض لها التهامي من طرف ابن أحد كبار المسؤولين. لم تطبق المسطرة القانونية عقب هذا الحادث الشنيع، لأن الرؤوس الكبيرة فوق القانون، ولأن التهامي ولد زبيدة لم يكن سوى ساعي بريد. ولأن الدار البيضاء، رغم قسوتها، ينتابها بطش شديد كلما تعرض أبناؤها للظلم، توقف الوقت وبقيت عقارب الساعة معلقة في انتظار أن تنزل العدالة من السماء كما الوحي.
عندما كان التهامي لا يزال على قيد الحياة، كان ممن لا يطلبون سوى السلامة ولا يحبذون الانجراف مع تيار الملاحم القومية والوطنية الفارغة. لم يكن يوماً ممن يصل بهم هاجس الخلود إلى درجة الهوس بفكرة إنجاب أطفال لمجرد أن يكونوا لهم خلفاً وامتداداً يجعل ذكراهم أقرب بكثير للخلود، ولهذا فقد أصبحت سيرته طي النسيان بمجرد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى. ولأن الميت لا تجوز عليه سوى الرحمة، لم يشمت به إلا من لا رحمة في فؤاده.