"غنيمة" الأطلس
لم يعدْ هناك أمل يُطلّ علينا من أعالي السماء، فمنذ أن حطّت المصائب رحالها في ميناء مدينتنا تغيّر كلّ شيءٍ فجأة. حتى أنّ التمسّك، ولو بما تبقّى من سرابِ الحلم البعيد، بات يُشار إليه بالبنان، كما لو كان ضربًا من الجنون المُزمن. عندما دفنّا ولي العهد وآخر سليل العائلة الملكيّة، كنّا بذلك على أُهبّةِ حقبةٍ تاريخيّةٍ يستحلّ خلالها كلّ منّا دماء أخيه، وتتناحرُ فيها القبائل من أجل نيل الحكم والسلطة. كان المشهدُ نفسه يتكرّر آلاف المرّات في اليوم، رجلٌ يُقتل غدرًا في السوقِ الرئيسي أمام الملأ، وبوحشيّةٍ انتقاميّةٍ لجريمةٍ لا ذنب له فيها سوى انتمائه إلى قبيلةٍ أراقت دماءَ قبيلةٍ أخرى. أصبح الخوف سيّد اللحظة واندثرتْ أواصر الأخوّة والتضامن التي كانت أشهر ميّزات المملكة قبل سقوطها.
ولشدّةِ ما دهمنا الخوف سارعتْ النساء إلى الزواجِ طلبًا للحماية من أزواجهن، كما ألحّت كلّ امرأةٍ مسنّة على ابنها أن يهبها حفيدًا أو اثنين ليحافظَ على استمرارِ النسل والنسبِ المتوارث. في خضمِ هذه الفترة التي عُرِفت بانعدامِ الاستقرار والأمان، تزوّجت أختي "غنيمة" رغم أنفها من رجلٍ ميسور الحال، ينتمي إلى قبيلةٍ مُواليةٍ لقبيلتنا. كان عريس الغفلة هذا قد اشتُهر بين القبائل بوسامته، وبنمطِ حياته المحفوف بالمغامرة وكثرةِ الأسفار، فيما كانت أختي مجرّد راعية غنم مُولعة بفنّ القصِّ والأدب الشفهي رغم كونها لا تُجيدُ القراءةَ ولا الكتابة. سخرتْ فتياتُ القبيلة من سخافةِ هذه الزواج غير المتكافئ، وبكت أختي كثيرًا على حظّها الذي دفعها، وهي الابنة البكر لشيخٍ قبيلةٍ أطلسيّة نحو زواجٍ تقليديٍّ لا شكّ في أنّه سيحرمها حياة الرُعاة والمزارعين التي كانت تعشقها منذ الصغر. كان حفل زفافها خياليًا، حتى أنّه ظلّ موضوع الحديث بين الجيران لأزيد من خمسة أشهر. تحدّث الناس عن جهاز العروس وذهبها، عن الحنّة البلديّة التي خضّبت شعرها ويديها، عن أطباق الكسكسي التي تراصّت بانتظامٍ في ضيافة الحضور، وعن المجوهراتِ التي زيّنت جيدها البدوي وزادتها جمالًا على جمالها.
مرّت الأيام السبعة من مراسمِ الاحتفال والأهازيج تشوبها موجة من الفرحة المُعدية وأجواء مُحبّبة، نالتْ استحسان الأهل والجيران، لكن أختي لم تجد من عرسها إلا مزيدًا من التيه والحزن. كانت كَوردةٍ تُزَفُّ لترابِ أرضٍ بور، لا لعيبٍ في عريسها، بل لرفضها لفكرة الزواج دون حبٍّ. الأسوأ من ذلك أنّها لم تألفْ حياة الزوجيّة والمسؤولياتِ الجديدة المنوطة بها، وكان زوجها كثير السفر كما توقّعت، وبالكاد كانت تخلو إليه أو تتجاذب وإياه أطراف الحديث. كان الأمر برمّته غريبًا. انتشرتْ أقاويل كثيرة عن كنّةٍ جديدة في بيت العائلة دون زوجها، وتساءلت العجائز في تعجّبٍ واستغرابٍ عن سبب السفر المفاجئ للعريس الجديد إلى أقاصي شرق البلاد مباشرةً بعد زواجه.
الوقتُ خديعةٌ كبرى، يحيلُ على أقدارنا ملامح النسيان حتى يستدرجنا نحو الحنين إلى الماضي البعيد
"كيف يسافر بهذه السرعة ويترك سيرتنا لقمة تصوغها أفواه الناس؟ "، تذمّرت والدتي على مرأى ومسمع من أختي التي جلست القرفصاء في بهوِ بيتنا غير آبهة، "ثم ما الذي أتى بك إلى هنا في هذا الوقت؟ أَتريدين أنت الأخرى أن تتطاول علينا ألسنة الجيران؟". كانتْ قطّةٌ هاربة من دار العريس، لم يستأ أبي بشأن هذا الزواج، الذي كان صفقةً رابحة بالنسبة له، لكن ما أثار تذمّره هو عودة العروس إلى البيتِ بعد مضي أقلّ من أسبوعٍ على زفّها إلى بيتِ الزوجيّة. جلس في بهو البيت حليق الرأس، عابس الوجه. زفرَ بغضبٍ وهو يحدّق في تجمّعنا النسائي.
جاء العريس بعد أسبوعٍ ليُعيدَها إلى بيت الزوجّية، معاتبًا إياها عتابًا مازحًا، وتنفّس أبي الصعداء أخيرًا بعد عودتها إلى زوجها. ورغم ذلك تهامست النسوة عن سوءِ أخلاق العروسِ الجديدة التي تجرّأت على العاداتِ والتقاليد والأجداد القابعين تحت تربةِ البلاد اليابسة، وذهبت إلى بيت أهلها دون إذنٍ من الرجل الذي يُفترض به أن يمتلك كلّ حركةٍ وسكنةٍ من جسدها الفاني، بحكم صكِّ الملكية/ الزوجية.
إنّما الوقت خديعة كبرى، يحيلُ على أقدارنا ملامح النسيان حتى يستدرجنا نحو الحنينِ إلى الماضي البعيد. فكرتُ كثيرًا في أختي، حتى بعد أن باتتْ زياراتها لبيتنا شبه معدومة. فكّرت في آمالها وأحلامها التي أجهضتها إرادةُ الأبِّ المتسلّط، وتمنيتُ لها في سريرةِ نفسي النجاة من خديعةِ الوقت.
ينتابني الشك أحيانًا حيال حقيقة إيماني بالذات الإلهيّة وطبيعة علاقتي بها. أهي علاقة يحكمها الخوف أم تسودها محبّة خالصة؟ يكاد إيماني أن يتبدّد كلّما انهالت عليّ مُصيبة من مصائب الدنيا، ثم يعود إليّ اليقين القاطع والتسليم لقضاء الله وقدره رغم الإحساس المرّ بالظلم. كانت أختي "غنيمة" تقول كلّما وجدت أماراتِ الحزن قد وشحت ملامح وجهي، أنّ الصمت هو الذي يرعى الظلم، وأنّ العدل لن يقضي إلا بانقضاء طالبيه. "غنيمة" التي نسيت نفسها، واستغرقتْ شبابها في الإنجابِ وتربيّة الأبناء… من كان يقول أنّ زواج المصالح والتقاليد قد يغَرِّبُها عن حقيقتها وجوهرها؟ أنجبتْ لزوجها الذكور، وعلمتهم الفروسيّة وصيد الحمام ببندقيةِ والدهم سليل الأئمة والفرسان والغزاة، ربّما تخلّت عن حلمها البدوي، وتركتْ تربية الغنم لمن لا ولي لها ولا وال، ربّما دفنت جموح خيالها في قلبها ليُزهرَ ربيع الحلم في فؤادها دون أن تطلعَ أحدًا على سرّها. ثمّ هناك ذلك الاحتمال البعيد الذي يرجّح كونها قد وقعت في عين الخديعة، وأنّ "غنيمة" التي عرفتها خلال طفولتي لم تعدْ موجودة.
يكاد إيماني أن يتبدّد كلّما انهالت عليّ مصيبة من مصائب الدنيا، ثم يعود إليّ اليقين القاطع والتسليم لقضاء الله وقدره رغم الإحساس المرّ بالظلم
ظلّت سيرة غنيمة موضوعًا حسّاسًا في بيتنا حتى ذلك اليوم المشؤوم، حين عاد أبي من صلاة الجمعة، وهو على شفا حفرةٍ من الجنون. قِيلَ له يومها أنّ غنيمة هربت من بيت زوجها، ابنته المطيعة التي لم تكن ترفض له طلبًا تثور على زوجٍ اختاره لها بنفسه، بل وتمرّغ وجه أبيها في التراب، وتسيء إلى القبيلةِ والنسبِ، وترمي وراءها كلّ ما لقّنها من أخلاقٍ وشيم. تبرّأ أبي من ابنته البكر أمام الناس جميعا، رغم أنّ قلبه رفض أن يلفظَ الودّ الذي بقي يكنّه لها، وعجز عن التصدّي لتيار الاحتمالاتِ المتضاربة، والتي قد تفسّر سبب هروبها. ظلّ يحمل نصيبًا من الأمل بعودةِ الابنة الأقرب لفؤاده، فيما اتسعت الفجوة بينه وبين إخواني الذكور الذين كانوا يكيلون الشتائم لغنيمة ويتوعدون بتأديبها، إن هي تجرّأت على العودة. عاد أبي إلى صمته المهيب وتركَ مهمّة إدارة شؤون البيت إلى والدتي التي تسلّمت زمام الأمور بكلِّ سرورٍ، وأصبحت الآمرة الناهية، صاحبة الرأي الذي لا يُعلى عليه. واستمرّ أبي في مناجاةِ السكون حتى أسلمت الروح إلى خالقها ودُفِنَ في مقبرةِ الشهداء إلى جانب جدّه الذي قضى نحبه مجاهدًا في معركة أنوال.
لم تعدْ غنيمة كما كان يتوقّع أبي، ولكن حقيقة مصيرها قد طفت فوق سطح محيطٍ من الأكاذيب، إذ شاعَ بين الناس أنّها عاشت في مليلية وتزوّجت صيّادًا فقيرًا، وقد ساعدته في مهنته حتى أغناهما الله وهاجرا إلى الديار الإيطالية. صدّقت هذه الرواية رغم ندرة الأدلة وكثرة الإشاعات، ربّما لأنّني تمنيت في قرارةِ نفسي أن تكون غنيمة قد أقدمت على الفرار من زواجٍ بائسٍ لتعيشَ رفاهيّة الاختيار التي سُلبت منها. لم أكن الوحيدة التي أضمرت تضامنها مع العروس الهاربة، إذ جلست نسوةُ القبيلة فيما بينهن يسترجعن الإهانة التي طاولت أختي عندما تُرِكت وحيدةً بعد زواجها وعودتها إلى بيت الزوجيّة كبضاعةٍ بخيسةٍ رُدّت إلى أهلها. تبادلتْ كلّ منهن نظرات تشي بتواطؤٍ نسائيٍ مبهم وهمهمت الحاجة فاطمة: "هكذا تكون المرأة الأطلسية الحرّة وإلا فلا!".