عودة القارة العجوز إلى براثن الفاشية
إحدى الأخطاء التي يرتكبها اليسار الحديث هو التقليل من تأثير السياسة الانتخابية، مما يدفع الأحزاب اليمينية دفعًا نحو الأوساط السياسية ويعجل العودة المتوقعة إلى الفاشية الكلاسيكية كتلك التي كانت قد أحكمت قبضتها على أوروبا الغربية خلال مطلع القرن العشرين. كما أن تفكك الأحزاب اليسارية وانفضاض الجموع التقدمية بسبب اختلافات أيديولوجية بسيطة هو الذي يضعف اليسار سياسيًّا ويجعل صعود أغلبية يسارية أمرًا شبه مستحيل.
زد على ذلك أن اليمين الأوروبي قد تمكن من استغلال تدهور الاقتصاد ونمط الحياة ليحرض على المهاجرين والأقليات، إذ إن الحملات الانتخابية الأكثر نجاحًا في أوروبا الغربية هي تلك التي تضع "معضلة" تدفق المهاجرين ضمن اهتماماتها وبرنامجها الانتخابي.
هكذا يعيد اليمين نسج صورة أوروبا "القلعة الحصينة" من جديد، في ظل غياب خطاب يساري يفند هذه المزاعم العنصرية ويحيي الوعي الطبقي في المجتمعات الأوروبية؛ نحن إذن أمام عملية اختراق للوعي الجمعي وحشد للنزعة القومية من أجل تحقيق أغراض سياسية محضة.
إن عودة القارة الأوروبية إلى الفاشية الكلاسيكية ليس بالأمر الغريب على كل من هو على دراية بتاريخها، وكذا نهجها الحاضر من طمس لماضيها الكولونيالي ونيو إمبريالية جديدة تذهب خيرات دول الجنوب وتعيق حركتها التنموية. تأتي رغبة بعض الدول الأوروبية في تشديد أمن حدودها ردَّ فعلٍ على التيار المناهض للإمبريالية الفرنسية، خاصة في دول غرب أفريقيا، فما إن تمكنت دول مثل مالي والسنغال من طرد الجيش الفرنسي خارج ترابها الوطني وانتخاب قادة يسعون لتوطين طاقات البلاد ومصادرها حتى كثر اللغط حول قوانين الهجرة والتجنيس في فرنسا.
والآن بعد أن بات من الصعب استغلال أفريقيا تحت ذريعة الاستثمار والدبلوماسية، يريدون تقييد الهجرة بعد عقود من استقبال العمال المهاجرين من دول الجنوب. الآن وقد بدأت أمارات التعافي تظهر شيئًا فشيئًا على مستعمراتها السابقة، تريد فرنسا أن تكتفي بما نهبت من أموال وطاقات بشرية.
في ظل غياب الوعي الطبقي، تمكنت النخبة السياسية من خلق صراع داخلي بين أفراد الطبقة العاملة وتقسيمها بناءً على أعراق العمال ودياناتهم
عودة القلعة الحصينة إلى أصلها الفاشي قد كان بالفعل أمرًا يسهل توقعه، خاصة أن الحركات النيوكولونيالية التي جاءت عقب إنهاء إمبريالية القرن العشرين قد كانت مؤشرًا صريحًا على أن أوروبا لم تضع بعد نقطة النهاية لحقبتها الفاشية، إذ إن الفاشية ليست إلا إمبريالية منغلقة على الداخل؛ بل إنها عملية تدمير ذاتي للحضارة.
من بين العلامات الجانبية لانتشار حمى الفاشية في أوروبا انعدام النزاهة السياسية وحوار الأفكار بين الخصوم السياسيين، إضافة إلى انتشار التطرف وخطاب الكراهية الذي يوجه اللوم إلى الأقليات والمهاجرين ويحملهم مسؤولية الانهيار الاقتصادي الذي ليس سوى مظهر من مظاهر مرحلة رأسمالية متأخرة.
في ظل غياب الوعي الطبقي، تمكنت النخبة السياسية من خلق صراع داخلي بين أفراد الطبقة العاملة وتقسيمها بناءً على أعراق العمال ودياناتهم لكي ينشغلوا عن العدو الحقيقي بخوف مفبرك من أن يتم استبدالهم. وفي خضم صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، يظل اليسار السياسي عاجزًا عن مسايرة خصومه في مناشدة النزعة القومية.
إذا كان عهد "الماكرونية" في فرنسا قد أكد للمواطن الفرنسي أن الوسطية السياسية تخلق حكومة ذات هوية سياسية ضعيفة وأهداف ضبابية، فمن ثم يفرض هذا الاستقطاب المتزايد في السياسة على الشعب أن يختار توجهًا سياسيًّا معينًا. في كثير من الأحيان يُعزى صعود بعض الشخصيات السياسية اليمينية المتطرفة لمناصب المسؤولية إلى عزوف عن المشاركة في الحياة السياسية من طرف فئة معينة من المجتمع المدني، والتي تفضل أن تعزل نفسها عن السياسة كونها فقدت الثقة في قدرة الأنظمة والمؤسسات على خلق التغيير. ولكن عودة الفاشية إلى واجهة الحياة السياسية ليست فقط نتيجة ركود في المشاركة السياسية أو عزوف عن التصويت، بل إن الخطاب الشعبوي الذي تتبناه الأحزاب اليمينية هو الذي يمكنها من حث المواطن البسيط على منح هذا الفكر صوته في الانتخابات وتبني قيمه المتطرفة والترويج لها. إضافة إلى هذا أن الأحزاب اليسارية أو التقدمية عامة لا تبذل المجهود المطلوب لمناشدة الجماهير وتتمسك باللغة النخبوية في مخاطبة عامة الناس، بما في ذلك الأفراد المعنيون بالقضايا التي يعنى بها التيار اليساري التقدمي. قد يفهم كل من الفلاح والعامل أن قضيته هي قضية صراع طبقي وسوسيو اقتصادي، ولكن المفارقة الشاسعة بين واقعه البسيط والخطاب المشبع بمصطلحات سياسية أكاديمية هو الذي يدفعه أحيانًا نحو تيارات سياسية تتنافى مع مصلحته الفردية وكذا قناعاته الجوهرية.
صحيح أن عددًا من الأحزاب السياسية، خاصة في وطننا العربي، توظف أساليب غير أخلاقية كالرشوة ومقايضة الأصوات الانتخابية بالمصالح التي تدخل في نطاق الحقوق والواجبات الطبيعية. إلا أن توظيف مبدأ النزاهة لإنجاح حملة انتخابية ليس أمرًا مستحيلًا، خاصة إذا توجه الناخب إلى الشعب مخاطبًا إياه بصيغة يفهمها بعيدًا كل البعد عن لغة الخشب وأسلوب التعميم والتضليل. على الأحزاب السياسية التي تتبنى قيمًا تقدمية أن تضع تقوقعها الطبقي وخطابها النخبوي جانبًا، وتعمل على إعادة إحياء الطابع الشعبوي والثوري الذي كان يميز الحركات اليسارية عبر التاريخ. قد يكون العامل مدركًا للواقع اليومي الذي يفرضه عليه الوضع الراهن، لكنه ربما لا يعرف كيف يحيل غضبه حيال الطبقة الحاكمة إلى اختيار سياسي فعال لأنه لا يعرف من يقف في صفه مقابل من يقف ضده في الصراع الطبقي.