المغرب... ظاهرة الهجرة غير النظاميّة
في الآونةِ الأخيرة، يُواجه المغرب نمطًا جديدًا من الهجرة غير النظاميّة عبر السباحة إلى سبتة، ومن ثمّ عبور الحدود الإسبانية المغربية التي أضحت بوابة "الحراقة"، نحو الحلم الأوروبي.
وضمن هذا السياق، باتتْ منصّة تيك توك محطّةً افتراضيّةً لتداول قصص الهجرة وتجارب الواصلين، وكذا المتخلّفين عن ركب زوارق "الزودياك" التي يستخدمها المُهرِّبون في رحلاتهم السريّة. هذا وقد عرفت منصّات التواصل الاجتماعي صعود "تريند" يدعو الشباب المغربي إلى الهجرة الجماعية يوم 15 سبتمبر/ أيلول من السنة الجارية. فما هي العوامل المحليّة التي تؤدّي إلى تفشّي هذه الظاهرة، خاصة في صفوف الشباب؟ ما هو دور الإعلام في تشكيل الصور السائدة عن ظاهرةِ الهجرة؟ وما هي التداعيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للهجرة غير النظاميّة على المغرب؟
حسب تقريرٍ لوكالة الأبناء المغربيّة، تمكنت الداخليّة المغربيّة من إحباط 45 ألف محاولة للهجرة غير النظاميّة منذ مطلع 2024. تصرّح لغة الأرقام بجديّة هذه الظاهرة التي تحصد الأرواح بالآلاف كلّ سنة، وتخلّف أثرًا دائمًا على القرى النائية والمدن الصغرى المُهمّشة التي تفقد أبناءها بسبب الهجرة الجماعيّة. رغم الخطر المُحتمل الذي يرتبط بالهجرة غير الشرعيّة، فإنّها لا تزال تشهد إقبالًا واسعًا، خاصة وأنّ القارة الأوروبيّة باتت تعود تدريجيًا إلى كونها "قلعة حصينة"، ممّا أدّى إلى تعقيد الهجرة النظاميّة واحتكارها من قبل الطبقة البرجوازية.
يعاني الشباب المغربي اليوم من ندرةِ فرص الشغل وارتفاع معدل البطالة (13,7%)، ناهيك عن تدنّي مستوى وجودة التعليم العالي الذي تقدّمه الجامعات والمدارس العليا الحكومية. تؤدّي الفاقة المُفرطة وغياب أدوات تنموية ذات نجاعة إلى تبلور فكرة الهجرة في أذهان الشباب العاجز عن خلق التغيير لنفسه في ظلِّ غيابِ دور المسؤولين، وتُضفي شيئًا من الجاذبيّة على ثقافة الموت في عرض البحر أملًا في الوصول إلى برِّ الأمان. تشكّل التحدّيات الاقتصاديّة التي يواجهها المغرب من أبرز العوامل التي ساهمت في تفشّي هذه الظاهرة على المستوى الوطني، إضافة إلى عامل المركزية الجهويّة والتفاوتات التنموية بين الشمال والجنوب والمركز (أو الداخل)، إذ أنّ الفوارق التنمويّة الشاسعة بين المدن والقرى والجهات المختلفة هي التي تولّد شعبيّة ضاربة لظاهرة الهجرة غير النظاميّة في جهاتٍ ومناطق معيّنة دون غيرها. هذا وتُعتبر المدن الساحليّة، مثل الفنيدق وطنجة، الوجهة الأنسب لمنظمي الهجرات الجماعية على الرغم من صرامة الأمن الحدودي فيها، بسبب موقعها الجغرافي الذي يربط بينها والأراضي الإسبانية.
الفوارق التنمويّة الشاسعة بين المدن والقرى والجهات المختلفة هي التي تولّد شعبيّة ضاربة لظاهرة الهجرة غير النظاميّة في جهاتٍ ومناطق معيّنة دون غيرها
تجذب قصص النجاح فئة الشباب الذين يعلّقون آمالهم على الهجرة بأيّ شكلٍ كان من أجل تحقيق ذواتهم، وهو إن دلّ على شيءٍ فإنه يدل على ضعف البرامج التنموية التي تستهدف شباب المغرب، وعلى عجزٍ حكومي عن استثمار الطاقات البشرية التي تزخر بها البلاد. وفي ظلِّ غياب سياساتٍ حكوميّةٍ تُعنى بتحسين الأوضاع والظروف المعيشيّة للطبقة الكادحة، تغدو هذه الأحلام البعيدة أكثر جاذبية في أعين مكلومي الوطن.
إنّ القارة الإفريقية، وعلى غرار معظم أقاليم الجنوب العالمي، لا تكاد تخلو من الأزماتِ والنزاعات التي تؤدّي بدورها إلى خلق أنماط من الهجرة غير النظاميّة نحو الشمال العالمي. يجد المغرب نفسه مقحمًا بأكثر من طريقة في التداعيات الجيوسياسيّة لأزماتٍ إقليميّة، بعضها وليد العصر الراهن، وبعضها ناتج عن عقود من الاستعمار والاستغلال الذي تعرّضت له القارة السمراء. يشكّل تدفّق المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى شمال إفريقيا تحدّيًا نوعيًا، يضع الدبلوماسيّة المغربية على المحك، إذ أنّ المغرب مُلزم من زاويّةٍ قانونيّةٍ محضة بكسبِ رهانات السياسة الحدوديّة والحفاظ على الأمن الحدودي مع الجارة الإسبانية، إلا أنّه من جانب اقتصادي وإنساني مُلزم أيضًا بحماية هؤلاء المهاجرين من خطرِ شبكاتِ الاتجار بالبشر وتوفير المساعدة الاجتماعيّة لمن هم بحاجة إليها.
الهجرة بكلِّ أشكالها ليست سوى محاولة بائسة للبحث عن حياةٍ كريمة
تطرح الهجرة غير النظاميّة تحدّيات جديدة على المغرب، وتُضاف هذه الأخيرة إلى مُجمل العوائق التنمويّة التي تحول دون تحسين الأوضاع المعيشيّة للساكنة. يتطلّب استقبال المهاجرين وإدماجهم مبلغًا ماليًا مهمًا وخطّة متماسكة من شأنها أن تعزّز التزام الدولة بحقوق الإنسان، كما أنّ إقبال الشباب على الهجرة يؤدّي إلى نقص ملحوظ في اليد العاملة والموارد البشرية التي تساهم في إغناءِ سوق الشغل. هذا ما تصفه النظرية الماركسية للهجرة بنزوحِ العمل نحو المدن، والذي بات يتجاوز حدود الدولة الحديثة ليصبح عبارة عن تمركّزٍ لليد العاملة في الشمال العالمي.
مثلما تؤثّر الهجرة كثيرًا على الجانب الاقتصادي المغربي، فإنّها تُعَرِّضُ الدبلوماسيّة المغربيّة لضغوط دوليّةٍ قاهرة للحدِّ من هذه الظاهرة والتصدّي لها، وعلى الرغم من كلّ هذا، فإنّ كبار المسؤولين المغاربة يصرّون على أنّ الدولة تتبنّى مقاربة إنسانيّة لحلِّ هذه المعضلة. إلا أنّ صرامة التحدّيات الأمنيّة التي تطرحها ظاهرة الهجرة غير النظاميّة تحتّم على المغرب تبني رؤية واقعيّة وجديّة في التعامل مع شبكات الهجرة غير النظامية، خاصة أنّ طبيعة النشاط السرّي لهذه الشبكات الإجراميّة ضمن الحدود المغربية لا بدّ أن يكون مقترنًا بأعمال غير قانونية (من تهريب للممنوعات أو اتجار بالبشر) قد تضع حياة المهاجرين في خطر.
لا يمكن للمغرب أن يكسب الرهانات السياسيّة والدبلوماسيّة المرتبطة بهذه الظاهرة، إلّا إذا تمكّن من كسب الرهانات الاقتصاديّة التي من شأنها أن تحسّن الظروف المعيشيّة للشعب المغربي وتخلق فرص النجاح لشباب الوطن، إذ إنّ الهجرة بكلِّ أشكالها ليست سوى محاولة بائسة للبحث عن حياةٍ كريمة.