المغرب... طلبة الطب واستعراض القوّة العقابيّة
بعد أن أوقفت سلطات الرباط أزيد من عشرة طلبة مساء يوم ٢٥ سبتمبر/أيلول 2024، وقامت بفضّ التظاهرة عن طريق تعنيف المحتجين، تبيّن للرأي العام أنّ أيّام استعراض القوة العقابية لا زالت قائمة. هذا وقد أعلن طلبة كليّات الطبّ والصيدلة وطبّ الأسنان عن بدء "إضراب شامل ومفتوح" يشمل التدريبات الاستشفائية والدروس النظريّة والتطبيقية، بالإضافة إلى مقاطعةِ كل الامتحانات، اعتبارًا من يوم السبت 16 ديسمبر/كانون الأوّل 2023، معتبرين أنّ هذه الخطوة هي الخيار الوحيد لضمان استجابة حقيقيّة من وزارتي الصحة والتعليم العالي. ومنذ إعلان اللجنة الوطنيّة لطلبة الطبّ وطبّ الأسنان والصيدلة عن بداية الإضراب، شهدت مختلف المدن المغربيّة احتجاجات وتظاهرات تُندّد بتعسفيّة القرارات الوزارية التي تضع مستقبل قطاع الصحة على المحك، وتسلب الطلبة حقّهم الطبيعي في الدراسة والعمل ضمن ظروف مقبولة على الأقل.
لم تكن هذه الأحداث هي الأولى من نوعها خلال السنة الجارية، فمسيرة شغيلة الصحة التي جرت في العاشر من يوليو/تموز شهدت هي الأخرى قمعًا أمنيًا من طرف سلطات الرباط التي قامت باستخدام القوّة وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين. إنّ إصرار السلطات على استخدام العنف ردًّا على الاحتجاجات والتظاهرات المشروعة يعكس بوضوح اختيار المسؤولين النظام العقابي أداةً لضبط الحراك الاجتماعي والسياسي، وذلك بدلًا من اللجوء إلى الحوار المتحضّر وتقديم تنازلات من أجل إعادة المياه إلى مجاريها.
يدفعنا هذا الاستخدام التعسفي للقوّة العقابيّة إلى التساؤل عن مدى قدرة المسؤولين على إدارة التوترات والأزمات بوسائل أكثر استدامة، وعن التداعيات المحتملة لفشل الحوار بين الوزارتين المعنيتين بالأمر واللجنة المُمثّلة للطلبة. وفي هذا السياق، يستظل مسؤولون ارتبطت أسماؤهم بهذه الأزمة بلغةٍ تهديديّةٍ صارمة، في محاولةٍ متأخرة لتبرئة أنفسهم من فشلٍ مُحتملٍ لإيجاد أيّة حلول عمليّة قد تُنهي الإضراب الوطني الشامل. وعقب الإجراءات "التأديبية" التي اتخذها وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي، شكيب بنموسى، ضدّ رجال التعليم المضربين، كشف وزير التعليم العالي عبد اللطيف الميراوي عن استعداده لاتخاذ إجراءاتٍ مشابهة تستهدف طلبة الطب والصيدلة، متجاهلًا مطالب المضربين وجدّيتها.
من الضروري أن تعيد السلطات النظر في مقارباتها وتتبنى حلولًا تعتمد على المشاركة والتفاهم بدلاً من اللجوء إلى العنف والقوة
إنّ التلويح بهذا الاحتمال كتهديدٍ للطلبة المُضربين، إضافة إلى طرد ممثلي الطلبة والناطقين باسمهم من مؤسّساتهم، يدل على ضعف آليات الحوار واتخاذ القوّة العقابية مرجعًا رئيسيًا في التعامل مع أزمة بهذا القدر من الحساسيّة. كما أنّ العنف الذي مارسته السلطات على طلبة الطبّ يُعدّ جزءًا من أدوات المجتمع العقابي، ويهدف أساسًا إلى ردع المتظاهرين ومنع انتشار الحركات الاحتجاجيّة إلى قطاعاتٍ أخرى. سعت هذه الاستجابة العنيفة إلى تحقيق ما يسمّى بـ"الردع العام"، حيث لا يكون الهدف فقط قمع احتجاج محدّد، بل توجيه رسالة إلى عامة الناس بأنّ الاحتجاج سيُواجَه بالقوّة، وهي تلك القوّة التي تشرعها الدولة لنفسها، والتي كان يفترض بها أن تظل أداة لتحقيق السلم والأمن حتى أصبحت غايةً في حدّ ذاتها وعنفًا لا غرض منه سوى السيطرة والإخضاع.
وفي سياق أحداث العنف ضدّ طلبة الطب في الرباط، يمكننا القول إنّ ما حدث كان بمثابة استعراض للقوّة العقابية التي تملكها الدولة، إذ إنّ الاعتداءات الجسديّة والاعتقالات التي طاولت عددًا من الطلاب وأولياء الأمور لم تكن مجرّد فعل عشوائي أو لحظي، بل خطّة مدروسة لتأكيد سيطرة السلطات على المجال العام وضمان الامتثال لسياساتها وقراراتها. بقدر ما أثارت هذه الأحداث امتعاض الرأي العام، فإنّها أعادت القدرات العقابيّة والردعية للدولة إلى الواجهة لتكون نصب أعين الناس؛ هكذا يتم استغلال النظام العقابي لشلّ الحراك السياسي والاجتماعي.
في ظلّ التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي يمرّ بها المغرب، تبدو الحاجة ماسة لاعتماد أساليب بديلة لحلِّ الأزمات والنزاعات، مثل تعزيز الحوار والتفاهم، بدلاً من الركون إلى العقوبات القمعيّة الاستبداديّة. بات من الضروري أن تعيد السلطات النظر في مقارباتها وتتبنى حلولًا تعتمد على المشاركة والتفاهم بدلاً من اللجوء إلى العنف والقوّة لضمان استقرار دائم، وإلّا فإنّها تخاطر بمستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع وبالعقد الاجتماعي الذي بُنيت على أساسه جلّ المجتمعات المعاصرة.