من ساعة هارون الرشيد إلى شارلمان وأحوالنا الآن
في بداية القرن التاسع الميلادي، أرسل الخليفة العباسي، هارون الرشيد، إلى ملك الفرنجة، شارلمان، ساعة مائية ضخمة، وما إن وصلت (الساعة) إلى مدينة آخن الألمانية، حتى تجمّع حولها الناس لمشاهدة هذه الأعجوبة الغريبة. وبالطبع رُوي الكثير عنها، من بينها أنّها عندما تسقط منها كرة على قاعدة نحاسية، تصدر صوتًا جميلاً أشبه بصوت الجرس، والأهم من ذلك أنّها صناعة عربية. واللافت بهذه الساعة طريقة عملها وانتظام مواعيدها، ما أذهل الملك ورعيته، فبقيت لديهم لغزاً محيّراً، ولم يجدوا حلاً لها، سوى أنّ من يحرّكها الشيطان! وأنّ الرشيد يرمي من خلالها إلى الإيقاع بشارلمان وسلبه مملكته، وعندها وافق الملك على تكسيرها لمعرفة حقيقتها، وبعد فشلهم في فكّ لغزها، عملوا على إصلاحها دون أن يتمكنوا من ذلك.
القصة طويلة، لكن العبرة منها أين أصبحت ساعة العرب؟ وأين باتت ساعة هؤلاء اليوم؟ على الرغم من تقاطع الأحداث وتشابهها بين الطرفين إلى حدّ التطابق في مراحل ومحطات تاريخية كثيرة.
فمثلما كان لدى العرب نبيّهم، ومسلم وبخاري، ومعاوية، والرشيد، وعدد من الفلاسفة والمتصوّفة الذين قتلوا وأحرقوا، كان لدى الأوروبيين، المسيح، وبولص، وبطرس، وشارلمان، ونابليون، وجملة من المفكرين والفلاسفة الذين تمّ حرقهم بتهمة الهرطقة. ومثلما كان لدينا في التاريخ العربي الحجاج، وأبو العباس السفاح، والعلقمي، وموقعة صفين، ومقتل الحسين، كان لديهم أيضاً أبشع من ذلك بكثير.
فوفقًا لبعض المصادر أنّه في عام 1570، أصدر ملك فرنسا، شارل التاسع، أمراً بقتل جميع المسيحيين من البروتستانت، ونفّذ الأمر في شوارع باريس بأبشع الطرق، ما أدى إلى قتل وسحل ثلاثة آلاف مسيحي في أحد أحياء باريس الصغيرة في يوم واحد، حيث شُقَّت بطون الحوامل وحُطِّمَت الرؤوس في الشوارع والساحات، واستمرت هذه المقتلة الجماعية عشرين عاماً.
واللافت أنّ هذه المذابح قد جرت بمباركة من رأس الكنيسة الكاثوليكية (البابا)، الذي أمر بإطلاق أجراس الكنائس احتفالاً، لا بل أوعز بصكّ عملة تذكارية، ورسم لوحة على جدران الفاتيكان تخليداً لذكرى ذبحهم، فضلاً عن الصراعات والحروب فيما بينهم، والتي لم تنتهِ إلا بصلح وستفاليا عام 1648، وما خلفته الحربان العالميتان من دمار، وإزهاق أرواح أكثر من 60 مليون شخص في الحرب الثانية وحدها.
ومثلما شهدت تلك الحقبة صراعاً دموياً بين أبناء الرشيد (الأمين والمأمون) على خلافة والدهم، الذي انتهى بمقتل الأمين، كذلك كان الحال مع (ورثة شارلمان) حينما تفجّر الخلاف بينهم وتحوّل إلى نزاع دموي، تفكّكت على أثره الإمبراطورية الأوروبية، لثلاث ممالك متصارعة، لتأخذ طريقها للانحلال.
عجز الإسلاميون بشقيهم السني والشيعي عن طيّ صفحة الماضي وهدم الهوة فيما بينهما، لتبقى ساعتنا معطلة ومشلولة إلى يوم الدين
الحال نفسه في ما يتعلّق بالصراعات والانقسامات التي شهدتها الخلافة العباسية، وما نتج منها من ضعف، إذ تحوّلت (الخلافة) بعد أقل من مئة عام لشمّاعة يحكم باسمها المماليك الواحد بعد الآخر، ليقوم الخلفاء بالاستنجاد بهذا القائد لمواجهة ذاك. وكذلك كان الحال مع البابا في روما، حيث تنقل المصادر أنّه بعد طرد البطريرك، ليو الثالث، عام 800، لجأ إلى الملك شارلمان، أقوى رجل في أوروبا، وبفضله استطاع العودة إلى روما والاستيلاء على الكرسي الرسولي بالقوة، ومكافأةً لشارلمان أحيا البابا الجديد قداساً في كنيسة القديس بطرس، ووضع التاج على رأس شارلمان، معلناً إنه "الإمبراطور الروماني المقدّس".
ومثلما نقل المماليك الخلافة من بغداد إلى القاهرة عام 1260، ألقى الملك الفرنسي فيليب الرابع، عام 1303 القبض على البابا واعتقله حتى توفي في سجنه، ثم نقل مقر البابوية من روما إلى فرنسا لتستمر مدة سبعين عاماً، قبل عودتها إلى روما ثانيةً.
كذلك في ما يتعلّق بتدنيس الأماكن الدينية المقدّسة، فبينما دخلت أباعر العباسيين الجامع الأموي بدمشق، وظلّ إصطبلاً لدوابهم وجمالهم سبعين يوماً، كما قُتل أناس كثيرون يومها، ونبشت قبور بني أمية، وفقاً لمحمد كرد علي (في كتابه "خطط الشام")، كذلك كان حال كاتدرائية كولونيا العريقة، المتربّعة على ضفة نهر الراين، حينما دخلتها جيوش نابليون الغازية عام 1794، واستخدمتها كإصطبل للخيول وثكنات للجنود.
ومثلما أخذ الأمويون والعباسيون بلعن بعضهم البعض على المنابر، كذلك فعل الأوروبيون، إذ يروي المؤرخ، ول ديورانت، أنه "لما أدرك البروتستانت في آخر المطاف أن انقساماتهم الداخلية أشبه بعملية انتحارية، وجهوا منابرهم وأقلامهم ضد عدوهم الروماني، ما مهّد لحرب الكلام والمدافع والدم، وتفاقم التقاذف، ودخلت قاموس اللاهوت ألفاظ كالروث، والنفاية، والحمار، والخنزير، والبغي، والقاتل". يقول قسيس بروتستانتي عام 1584: "لقد تعلّم الأطفال في الشوارع أن يلعنوا عدو المسيح الروماني وأتباعه الملاعين".
نعود للسؤال: أين باتت ساعتنا، وأين أصبحت ساعتهم اليوم؟
في عام 1841، أسّس مواطنو مدينة كولون الألمانية رابطة كاتدرائية الدوم الجاثمة على ضفاف نهر الراين (الكنيسة نفسها التي دنستها جيوش نابليون)، التي اعتبرت منذ ذلك التاريخ بمثابة إعلان بداية عهد الوفاق بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية. ومع استكمال بنائها في عام 1880 احتفل بها الجانبان كنصب قومي تذكاري، من شأنه تكريس الوفاق المشترك بينهما، وهو ما تتوّج أيضاً بالذكرى الـ500 لقيام حركة الإصلاح الديني، الذي أقيم (2017) في مدينة فيتنبرغ في ألمانيا، مسقط رأس زعيم حركة الإصلاح الديني في أوروبا، مارتن لوثر، والذي جاء فيه: "نطلب الغفران لإخفاقاتنا وللطريقة التي تسبب فيها المسيحيون من جروح وإساءات متبادلة فيما بينهم، وإننا ملتزمون مواصلة العمل معاً بحثاً عن توافق كبير لتسوية الخلافات الباقية".
بالمقابل، تحوّل الجامع الأموي في دمشق بعد قيام ثورة السوريين المطالبة بالحرية، ومشاركة المليشيات الإيرانية بقمعها إلى ساحة صراع مذهبي، وبينما تعدّدت مؤتمرات الحوار الديني (الإسلامي المسيحي) وتوالت الزيارات بين المراجع الدينية من الجانبين، عجز الإسلاميون بشقيهم، السني والشيعي، عن طيّ صفحة الماضي وهدم الهوة فيما بينهما، لتبقى ساعتنا معطلة ومشلولة إلى يوم الدين.