جوزيف شهرستان... وداعاً
أخطر ما تقومُ به الأنظمة المستبدة هو تجفيف المجتمعات من أبطالها الحقيقيين، مقابل إعلاء شخص الحاكم دون سواه، من ثمّ اللجوء إلى صناعةِ أبطالٍ مزيّفين، فيتحوّل الحاكم رغم أخطائه القاتلة والظلم الذي يُمارسه بحقِّ المجتمع إلى رمزٍ، ليصبحَ بذلك، هو ومنظومته الحاكمة، مع أولئك الأبطال المُصنّعين، خيرَ قدوةٍ في المجتمع. لذلك لا غرابة في أن تكثر في هذا المجتمع آفات التملّق والفساد والذل والإذلال، فيكثر فيه التافهون والدجالون والمنافقون. ولعل خير مثال على ذلك، ما حدث يوم مصرع نجل الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، في حادث سيارة، حيث قال الشيخ الراحل، محمد رمضان البوطي، بأنّ ابنه الراحل باسل الأسد من طيور الجنة، في حين أقسم بعده أحمد حسون: "أن الذي وضع بشار الأسد وحافظ الأسد.. لست أنا أو أنت، بل هو الله".
منذ أيّام رحل نجم الكرة السورية، جوزيف شهرستان، والذي كان لقبه في يوم ما "الطائرة النفاثة"، وذلك بعد رحلةٍ طويلة من الإنجازات رفع خلالها اسم سورية عالياً. كيف لا، وهو الذي تمكن خلال موسمين فقط من تسجيل 51 هدفاً في الدوري السوري، ثمّ اشترك مع نادي الجيش السوري في بطولةِ الجيوش العربيّة، وفاز بها عام 1969، ليتصدّر جميع الهدافين في البطولة بسبعةِ أهداف. أمّا أبرز تلك الإنجازات، فيتمثّل في قيامه بتسجيل هدفين في مرمى المنتخب المصري في كأس فلسطين بليبيا عام 1973، لتكتبَ يومها الصحف المصريّة في صدر صفحاتها أنّ "لاعباً سورياً لا برازيلياً تلاعب بالدفاع المصري".
حينما كان جوزيف شهرستان في قمّة عطائه وتألقه، كان السوريون، صغارهم مع كبارهم، مُولعين به، مشدودين باتجاهه، يتفاخرون بانتصاراته المبهرة، وكان الرئيس يدعوه ورفاقه الآخرين للقائه، ثم يطبطب على ظهورهم، وبدورهم كانوا عند كل انتصار يحقّقوه، وكما هي القاعدة، يهدون انتصارهم لسيّد الوطن! لكن حينما مرض شهرستان وأضناه الفقر والعوز، لم يجد بجانبه سوى قلّةٍ قليلة من السوريين، قلّة ليس منهم رفاقه بالرياضة أو السلطة الحاكمة أو "سيّد هذا الوطن"، ليرحلَ مثل بقية أبطال سورية المنسيين.
تمكن اللاعب جوزيف شهرستان خلال موسمين فقط، من تسجيل 51 هدفاً في الدوري السوري
لم تنفع شكواه التي جاهر بها قبل ذلك بعام تقريباً، حيال وضعه الصحي والمعاشي المتردّي، مطلقاً صرخاته بحرقةٍ جارحةٍ، أنّ صاحب المنزل الذي يستأجره أبقاه في الشارع، كاشفاً أن لا أحد أتى ليسأله عمّ إذا كان مُحتاجاً، أو حاول أن يأخذه إلى عيادةِ طبيب، ومثله بالطبع هناك أسماء منسيّة كثيرة، فكابتن منتخب سورية، محمد خير ضاهر، قام ببيع أثاث منزله كي يتعالج من مرضه، لذلك كانت كلماته الوداعية قبل رحيله، والتي خاطب بها السوريين جارحة: "عندما يكون الرياضي منا بكامل عطائه يجد الناس حوله في كلّ لحظة، لكن عندما يقع، الجميع ينسحب".
بدوره الحكم الدولي ومدرب منتخب سيّدات حلب لكرة القدم عبد الله جركس توفي بمرض السرطان دون أيّة عناية تُذكر، لا من قبل الاتحاد الرياضي السوري ولا من "سيّد الوطن"، ومثله كان حال نجم منتخب سورية في الثمانينيات اللاعب عصام محروس، ومثلهم أيضاً الكابتن موسى شماس، أفضل لاعب في تاريخ الكرة السوريّة، والذي حاز على ذهبيّة بطولة الجامعة العربية في تونس بعد الفوز على البلد المضيف في الدور النهائي. يقول شماس لستريت جورنال عبر اتصال هاتفي: "لم يسأل عني أحد وأنا مصرّ على البقاء في وطني، رفضت الهجرة رغم الدعوات إليها لأني سأموت في دمشق".
وعليه، تذكرنا قصة جوزيف شهرستان المُحزنة وقصص بقية أبطال سورية المنسيين، مقابل النفخ بأبطال مزيّفين، كباسل الأسد وعلي الديك وعصام زهر الدين وسهيل الحسن ويوسف جربوع، وغيرهم من أبطال زمن الانحدار السوري، بقصة القائد التاريخي، طارق بن زياد، فاتح الأندلس، وتسلّط موسى بن نصير والخليفة سليمان بن عبد الملك على انتصاراته.
يروي واسيني الأعرج عن بعض المصادر التاريخية أنّ موسى بن نصير التحق على رأس جيش بطارق بن زياد، إلّا أنّه لم يخض أيّة حرب حقيقية، إنما وجد كلّ شيء منجزاً أمامه. وهنا بدأ الخلاف يدبّ بينه وبين طارق بن زياد مشفوعاً بحقدٍ كبير، على خلفيّةِ أنّه كيف لقائد صغير أن يحتل الواجهة، بينما الذي حمل لقب فاتح أفريقيا بقي في الخلفيّة، ليقوم بسجنه، لا بل همّ بقتله، لولا شفاعة مولى الخليفة، وعلى أثر هذا الخلاف قام الخليفة الأموي في دمشق باستدعائهما لتوضيح حقيقة الأمر.
قبل وصولهما إلى دمشق مرض الخليفة الوليد وكان على حافة الموت، لذا أراد خليفته سليمان بن عبد الملك أن ينسب فتح الأندلس لنفسه، لذلك أمرهما بالتريّث والانتظار في طبرية، حتى وفاة أخيه الخليفة الوليد، لكنهما دخلا دمشق غير مكترثين بكلامه، وعندما تولّى سليمان الخلافة بعدها بفترة قصيرة، انتقم منهما، فعزل موسى بعد أن قتل ابنه عبد العزيز، بينما لم يُسمع بعدها شيء عن طارق بن زياد الذي دخل القصر ولم يخرج. لم يعدْ أحد يعرف عنه شيئاً، والأقرب للصواب (والقول للأعرج) أن يكون قُتِلَ ورُمِي للضباع التي كان يربيها الخليفة سليمان بن عبد الملك في السراديب، في حين ذهب بعض المؤرخين للقول إنّه مات شحاذاً في شوارع دمشق وأمام المسجد الأموي، ليدفع بذلك طارق بن زياد ثمن بطولاته (واسيني الأعرج، الغربال أنفو).
باختصار، إنّه زمن الانكسار السوري، إذ يكفي القول بتحسّر إنّ الرياضة السورية التي رأى فيها حافظ الأسد الحياة، لم تحقّق على المستوى الدولي سوى ذهبيّة غادة شعاع في أولمبياد أتلانتا 1996، وفضيّة جوزيف عطية في المصارعة بلوس أنجلوس 1984، وبرونزية ناصر الشامي بأثينا 2004، وأخيراً برونزيّة معن أسعد في رفع الأثقال بطوكيو 2020، بذلك تحتل سورية المرتبة الخامسة على المستوى العربي والمركز 88 عالمياً.
بالمقابل حققت مصر 26 ميدالية بين ذهبيّة وفضيّة وبرونزيّة، لتحتل المركز الأول عربياً و52 عالمياً، بينما المغرب 22 ميدالية؛ لتحتل المركز الثاني عربياً و55 عالمياً، والجزائر 15 ميدالية لتحتل المركز الثالث عربيًا و62 عالمياً، في حين تونس 10 ميداليات لتحتل المركز الرابع عربياً و70 عالمياً، وفق الجزيرة نت.