الثورة السورية: الكنز العظيم والطريق إلى التقسيم
تشبه حالة الثورة في حياة الأمم تلك المرجانة أو (الكنز) الذي يظهر فجأةً في عرض البحر، فيراه الثوار وكل من شارك، لكنهم ما إن يهبّوا للإمساك به حتى يختفي ويغيب، ليتحول ذلك الكنز مجردَ سراب وإحباط لدى الثوار، وهو ما عبّرت عنه المفكرة الأميركية "حنة آرنت" بوصفها خيبةَ الثوار بنجاح ثورتهم، في "أنها سعادة تظهر لكنها سرعان ما تختفي، بل هي لا تظهر حتى تختفي، لتصل إلى نتيجة هي أن قدر كل الثورات الإنسانية أن تفقد كنزها العظيم".
بذلك، فإن الثورة السورية لن تكون استثناءً في ما يتعلق بهذه الخيبة، على الرغم من أنها كانت الأكثر دموية من بين جميع الثورات في العالم، من ثم الأكثر تعرضًا للخداع الدولي على الإطلاق، خصوصًا أنه لم يشهد تاريخ الأمم المتحدة منذ أن ظهرت إلى الوجود عام 1945 أن اتفق أعضاء مجلس الأمن المتحكمين برقابه على مسألة دولية أكثر مما تطابقت رؤاهم في الحالة السورية، والمفارقة العجيبة هي أن هؤلاء كانوا يقتتلون على مجرد عظمة، ويتسابقون في الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما في المسألة السورية، أخذوا يتوافقون ويتشاركون في قتل الشعب السوري.
اليوم، يحضر هذا التوافق الدولي والإقليمي على الساحة السورية بقوة وبشكل فاضح ومكشوف، لينهي دور آل الأسد، الذي استمر أكثر من خمسين عامًا في نهب وتخريب الدولة السورية وتشريد شعبها، وليطرح هنا السؤال نفسه، هل حققت الثورة السورية أهدافها؟ أم أن هذا "الكنز العظيم" الذي دفع السوريون لأجله الدماء الكثيرة ما زال بعيد المنال؟
وللإجابة عن ذلك، يمكن القول إن هذا الفرح الكبير الذي احتفل به السوريون، بكل ألوانهم وأطيافهم، إنما هو احتفال بسقوط المنظومة الفاسدة وليس بنجاح الثورة، لأن الثورة عبارة عن مراحل متلاحقة، صحيح أن ثورة السوريين قد ولدت في عام 2011 إلا أن السلطة القمعية المخلوعة، وبتواطؤ المجتمع الدولي، قامت بوضع هذا (المولود الجديد) في (الثلاجة) طيلة هذه السنوات الحمراء، حتى تاريخ سقوطها.
ومع الحلول القمعية التي لجأت إليها، من تدمير وقتل وتشريد وإفقار، فضلًا عما بذلته من جهود في فكفكة بنيان المجتمع السوري وضرب وحدته الوطنية، أدى كل ذلك إلى تشوه هذا (المولود)، وإلحاق شتى العطوب به، وعليه، فإن هذا التشوه في جسد الثورة هو في الواقع من أفرز الإدارة الجديدة، التي باتت تحكم السوريين اليوم.
بذلك يمكن القول إن ثورة الشعب السوري لم تبدأ إلا بعد سقوط النظام المخلوع، وبالتالي، فإن أمام السوريين لا يزال المخاض شاقاً وطويلاً، أسوةً بجميع الثورات في العالم التي أعقبت سقوط الأنظمة المستبدة، فالثورة الإنكليزية على سبيل المثال شهدت حروبًا أهلية دامت (13) عامًا، انقسم خلالها البرلمان بعضه على بعض، انتهت بإعدام الملك على يد الجمهوريين، بعد ثلاث سنوات من موت "كرومويل" قائد هذه الثورة، قام ابن الملك المقتول بنبش قبره وتعليق جثته على مبنى البرلمان البريطاني.
ثورة الشعب السوري لم تبدأ، إلا بعد سقوط النظام المخلوع، وبالتالي فإن أمام السوريين لا يزال المخاض شاق وطويل، أسوةً بجميع الثورات في العالم
ومثلها كان حال الثورة الفرنسية التي استمرت أكثر من (10) سنوات، فالملك الذي أوصى الحدّاد كي يتفنّن بشفرة المقصلة من أجل زيادة عذابات الثائرين، قام الثوار بقص رأسه ورأس زوجته بنفس الشفرة، ثم ليقوم هؤلاء على رأسهم روبسبير بتصفية بعضهم بعضاً بنفس المقصلة، حتى بلغ من قُتل منهم أكثر من 16 ألف شخص، إلى أن جاء دور رأس روبسبير نفسه، قبل أن تنتصر الثورة وتحقق أهدافها في فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير.
لكن السؤال الأهم هنا، هل نحن مثل بقية شعوب العالم التي ولجت طريق الديمقراطية؟ أم أن الأرض العربية باتت استثناءً؟ كما يذهب إليه البعض، بسبب وجود خلل بنيوي أصيل في طبيعة الدين الإسلامي والثقافة العربية الاستبدادية، ووجود بنية ذهنية ثقافية دينية مزمنة تعوق السير بهذا الطريق، على حد وصف محمد عابد الجابري في نقده العقل العربي، فضلًا عن وجود العامل الخارجي.
وعليه، فإن عدم ولوجنا عصر التنوير مثلنا مثل بقية هذه الشعوب، إنما يعود وفقًا للجابري "لعاملين رئيسين: أولهما أن الغرب قضى أكثر من ثلاثمائة عام في الحروب الدينية والقومية، بينما انطلقت نهضتنا على أكثر تقدير مع بداية القرن الـ19، وبالتالي، نحن لم ننخرط في النهضة وطرح إشكالاتها إلا منذ مائة عام، أما العامل الثاني، فهو أن الغرب عندما كان يتقاتل أو يتقدم ليبني نهضته، لم يكن هناك خصم خارجي يتدخل لإحباطه أو إعاقته، أما نحن، فالخصم الخارجي عنصر أساسي في المعادلة، لذلك يجب ألا نقيس الأمور بنفس المقياس لأن لنا وضعًا مختلفًا" (الجابري والأعرجي، وفاء وحوار ونقد ص 92).
فكيف هو الحال ونحن نتحدث عن سورية التي لم يتوانَ الغرب عن فرض هيمنته عليها، بدءًا من اتفاقات سايكس بيكو، إلى انقلاب حسني الزعيم 1949 الذي رعاه الأميركيون أنفسهم، وما بعده من انقلابات، إلى تسلم حافظ الأسد وورثته رئاسة البلاد أكثر من نصف قرن، بعد أن انتهى دور الأسدين، جاء دور الإسلام السياسي ليعيدنا إلى المربع الأول.
وعليه، هنا تكمن خطورة العامل الخارجي الذي تحدث عنه الجابري، على مدار 11 يومًا فقط تم خلالها تحرير سورية، على حد قولهم! في اليوم التالي، بدأ الحجيج الدولي يتقاطر، لقد جاء حافظ الأسد بناءً على توافقات دولية مقابل القيام بالدور الهدّام، أكان على الصعيد العربي باصطفافه إلى جانب إيران في حرب السنوات الثماني في مواجهة العراق، أم على الصعيدين اللبناني والفلسطيني على حد سواء، فضلًا عن نهب خيرات سورية وتخريبها وتهجير شعبها، وتدمير ما تملكه من أسلحة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ماذا تبقى اليوم للإدارة الجديدة من مقابل تقدمه، سوى المساهمة في تقسيم البلاد إلى إثنيات عرقية وطائفية متصارعة؟