الطفولة السورية بين بسطاري العسكر والمذهب
يُولدُ الطفل وعقله عبارة عن ورقةٍ بيضاء، فتكتبُ الأسرةُ في هذه الورقة ثقافتَها وموروثها الديني والأخلاقي، ما يساهم في تحديد معالم شخصيّته وتشكيل اتجاهاته وميوله ورغباته، وتحديد نسق منظومة القيم لديه، ثمّ تأتي المدرسة لتساهمَ بقدرٍ كبيرٍ من نموّه، لِما تقدّمه له من معرفةٍ وطرقِ تفكيرٍ واكتساب مهاراتٍ ومحاكماتٍ عقلية، فضلاً عمّا توفّره لديه من إحساس بالانتماء الوطني، واكتساب القيم ومعايير الضبط الاجتماعي والأخلاقي.
وبذلك، يقع على المدرسة والمنظومة التربويّة العبء الأساس في تنشئةِ الطفل، وبناء شخصيّته وتحديد معالمها الوطنية، باعتبار أنّ الدور الذي تقوم به يأتي في أهم مرحلةٍ من حياةِ الطفل، لكونه ما زال في طور التشكُّل والنمو من جميع النواحي الجسميّة والنفسيّة والعقليّة، وبالتالي يقع على كاهل المدرسة، ليس بناء شخصيّة الطفل فقط، وإنّما تصحيح ما خضع له من أخطاء وانحرافاتٍ تربوية قد تكون جاءت إليه من الأسرة أو المجتمع.
تقولُ الأرقام الواردة من الأمم المتحدة إنّ ما لا يقل عن (30,127) طفلاً سورياً قتلوا منذ مارس/ آذار 2011، وإنّ حوالى (2.4) مليون طفل من أصل (5.5) ملايين في سن الدراسة، هم خارج المدرسة، ما يُنذر بكارثةٍ خطيرة، حيث سيكون الجيل المُنتج في سورية بعد حوالى عشرين عاماً "جاهلاً وأمّياً" وفقاً لقناة الحرّة.
يقودنا ذلك إلى السؤال: ما الذي يكتبه السوريون اليوم في صفحاتِ من بقي من أطفالهم على قيد الحياة، بعد كلِّ ما عانوه من مآسٍ وويلات؟
قبل سنوات تسرّبت معلومات تُفيد بأنّ السلطة السورية تفكّر جدياً في إلغاء منظمة طلائع البعث، ذلك المعتقل الإجباري الذي يُصَنْدِق عقول الأطفال ويخرّبها، مثلما ألغى الاتحاد النسائي العام، واتضح أنّ تلك التسريبات، لم تكن سوى زوبعة في فنجان، مثلها تماماً مثل تعديل المادة الثامنة من الدستور، التي ما زالت حبراً على ورق.
لم تتعلّم السلطة السورية من حجم الكارثة، الناجمة عن التخريب المُمنهج الذي أحدثته في العقل السوري، وما نتج عن ذلك من تدمير للوطن والإنسان
لم تتعلّم السلطة السورية من حجم الكارثة، الناجمة عن التخريب المُمنهج الذي أحدثته في العقل السوري، وما نتج من ذلك من تدمير للوطن والإنسان، إنّما تقوم اليوم عبر منظماتها في طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة، وأعضاء في مجلس الشعب وزعماء عشائر، بالتعاون مع المركز الثقافي الإيراني بدمشق، بتنسيب الأطفال السوريين إلى ما يسمّى "كشافة الامام المهدي"، وذلك وفقاً لما كشف عنه موقع "درج اللبناني" بتقريره المفصل بتاريخ (6 مايو/ أيار 2021)، من أنّه تُلقى الدروس الدينية على الأطفال السوريين وتدريبهم على السلاح، وهو ما يطلق عليه "محو الأميّة" ضمن معسكراتٍ إيرانيّةٍ مغلقةٍ، تشكل جسراً للانضمام إلى المليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، وبالمقابل تعفي المنتسبين إليها من الالتحاق بالخدمة العسكريّة السوريّة.
تقول إحدى المنتسبات (نقلاً عن درج) أنّ "جو الكشافة يشبه الالتزام الديني داخل عائلتي، وأنّ من مهام الفتيات الخضوع للدورات الدينية والثقافية، والمشاركة في مسيرات عاشوراء". أما مصطفى، فيقول إنه "أمضى ثلاثة أشهر في هذا المعسكر العقائدي، تلقى خلالها دروساً دينية على أيدي مُعمّمين إيرانيين، كانوا يتحدثون كثيراً عن آل البيت ومعارك الحسين، وعن معركة (الطف) التي قتل فيها، ما جعلني أتأثر كثيراً، ولأنني كنتُ صغيراً، غيّرتُ طائفتي من السنية إلى الشيعية".
أمّا محمد، فيشير إلى أنّه يوجد ثلاثة مراكز للكشافة في دير الزور، حيث استطاعت إيران من خلال ما تقوم به من أنشطةٍ مدنيّة، كإعادة تأهيل بعض البنى التحتية من شوارع وحدائق، إضافة إلى "الغزو الاجتماعي" عبر المراكز الثقافية الإيرانية في مناطق نفوذها غرب الفرات، من استقطاب الأطفال بشكلٍ كبير، مستغلةً الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة الصعبة لدى عموم السوريين.
أمّا تاريخ تأسيس هذه الكشافة في سورية، فيعود لعام 2012، لكن لم يُعلن عنها إلا في عام 2019، حين افتُتِح فرع لها في دير الزور، من طلّاب المدارس الحكوميّة، بالتعاون مع أجهزة السلطة. يقول (علي) وهو معلّم في إحدى تلك المدارس إنّه "مع بداية ذلك العام الدراسي بدأ المركز الثقافي الإيراني ينشط بالتعاون مع منظمة طلائع البعث، من خلال تقديم الأموال والقرطاسية والطعام، إضافة إلى تنظيم رحلات مدرسية ومهرجانات ضمن المدارس".
نصف الأطفال السوريين لا يعرفون غير العنف، ويوجد أكثر من خمسة ملايين طفل بحاجة للمساعدة الإنسانية داخل البلاد
أمّا في ما يتعلق بروسيا، فقد أورد موقع روسيا اليوم، أنّه بموجب الاتفاق بين البلدين، فإنّ أوّل دفعة من الأطفال السوريين تلتحق بالأكاديمية العسكرية بسان بطرسبرغ، ويأتي ذلك تنفيذاً لقرار البدء بتدريس الطلاب السوريين في المؤسّسات التعليميّة العسكرية الروسية، من أجل تدريبهم، ليصبحوا ضباطًا حقيقيين في الجيش السوري المستقبلي". من جهتها، ذكرت منظمة "يونيسف" في مارس/ آذار ٢٠٢٠، أنّه جُنِّد حوالى 5,000 طفل في القتال، لا يتجاوز عمر بعضهم سبع سنوات، من قبل أطراف مختلفة، من بينها "وحدات حماية الشعب الكردي" في شمال شرق سورية.
أمام هذا الحال، أيّ رأسمال بشري بقي لدى السوريين؟ وأيّ مستقبل ينتظرونه؟
تقولُ آخر الأرقام إنّ حوالى (4.8) ملايين طفل سوري تقريبًا وُلدوا في أثناء الحرب. وعليه، إنّ نصف الأطفال السوريين لا يعرفون غير العنف، ويوجد أكثر من خمسة ملايين طفل بحاجة للمساعدة الإنسانية داخل البلاد، وحوالى (4.8) ملايين طفل بحاجة لمساعدة نفسيّة، نتيجة الصدمات النفسيّة الحادة والمزمنة التي تعرّضوا لها، وهناك أكثر من (9.3) ملايين شخص يفتقرون إلى الغذاء الكافي، وبذلك فإنّ أكثر من (90) بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، البالغ "دولارين باليوم" وفقًا لما جاء في موقع حرمون.
متى ستدرك السلطة السورية أنّ تسييس الأطفال وعسكرتهم، إنّما تُعلِّمان الطفل التزلّف والكذب، والعبودية للأفكار التي يتم تلقينه بها، فضلاً عمّا تخلّفه العسكرة المذهبيّة من توارث ثقافة العنف وتشرّبها بالقسوة والسلوك الإجرامي، وزرع الأحقاد والكراهية تجاه كلّ شيءٍ مختلف، ثمّ هل ينقص السوريين المزيد من التفكّك المجتمعي، بما يُولّد بينهم من عوامل تصدّع وانفجار؟ أم أنّ على السوريين الخيار بين البسطار العسكري، وغبرة البسطار المذهبي؟