مقار حزب البعث عندما تصبح أوكاراً للجاسوسية
يقول ريموند هنيبوش بكتابه "تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث" (ص474) بأن حكم حافظ أسد "ملكي رئاسي قامت سلطته على فريق طائفي من رفاق السلاح المقربين، وتشكيل شبكة من العلويين التابعين والموالين شخصيًا في مراكز قمة الدولة، بحيث أصبح كل منهم مدعومًا بتوزيع الرعاية والتسامح مع الفساد بين الصفوة" وهو ما أكد عليه كل من اهتم وبحث في الشأن السوري من بينهم حنا بطاطو بكتابه "فلاحو سورية" بقوله إن "قاعدة سلطة الأسد في جوهرها علوية بقوة".
وتأكيداً على ما ذهب إليه هؤلاء عندما اندلعت الاحتجاجات السلمية عام 2011، كان العلويون يشكلون قرابة السبعين في المائة من موظفي الدولة، وفقاً لفابريس بلانش (معهد واشنطن للدراسات، 8 فبراير 2018)، لذلك ليس من المستغرب أن يتحول المجتمع السوري إلى مجتمع "مفخخ" قابل للانفجار، حسب تعبير ياسين الحاج صالح، بل ليس من المستغرب أن الحرب ستكون حتمية على المدى الطويل، وفقاً لبلانش نفسه.
لقد مارست السلطة الأسدية على مدار حكمها الطويل باسم "حزب البعث" سياسة التفرقة وخلق الدسائس ونهب المال العام، منذ أن تسلّم الأسد قيادة القوى الجوية عام 1964 والتي حولّها مع مديرية الطيران المدني إلى "إقطاعية مغلقة" وفقاً لبطاطو (ص 330) عملت هذه الإقطاعية العسكرية الطائفية خصوصا بعد انقلاب 1970 على إنهاء دور الحزب وتفكيك المجتمع السوري وتهديم الأسس التي قامت عليها الدولة، تحوّل خلالها حزب البعث "لمجرد واجهة لا أكثر" وفقاً لهينبوش (ص41) كان الأسد خلالها "يختار شخصيًا أعضاء القيادة القطرية، وإن كان عبر انتخابات شكلية".(بطاطو، ص453)
وهو ما انعكس تماماً على أداء الحزب وعلى جميع مؤسسات الدولة في نفس الوقت، لذلك كان تفشّي المحسوبية وانتشار الفساد وإضعاف الروح الوطنية، البوصلة الحقيقية التي سارت على نهجها السلطة في جميع مفاصل الدولة، عدا عن سياسة التمييز الطائفي التي انتهجت على أوسع نطاق، خصوصاً على صعيد المؤسستين العسكرية والأمنية ومثلها البعثات العلمية والدبلوماسية في الخارج.
بذلك تفكك المجتمع وانزرع الخوف والتوجس لدى عموم السوريين، لذا من غير المستغرب أن يقوم غالبية المنتسبين للوظيفة العامة والمنتفعين في بقية قطاعات الدولة، خصوصا العسكريين بربط مصيرهم بمصير النظام، كما يصوره لنا الباحث خضر خضور بقوله: "إنه عند وفاة الأسد، عام 2000 قام عدد من الضباط بإرسال عائلاتهم إلى قراهم بانتظار حصيلة عملية الخلافة، ولم تعد هذه العائلات إلا بعد أن تم تثبيت بشار كرئيس جديد. لقد فهم الضباط أن حياتهم في دمشق مشروطة ببقاء النظام وليس بوضعيتهم كموظفي دولة أو عناصر في السلك العسكري". (4 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، مركز كارنيغي للشرق الأوسط).
من غير المستغرب أن يقوم غالبية المنتسبين للوظيفة العامة والمنتفعين في بقية قطاعات الدولة، خصوصا العسكريين بربط مصيرهم بمصير النظام
في المقابل، كان الأسد يدرك كل الإدراك خطورة ما سيترتب عن هذه السياسات الهدامة من نتائج على الصعيدين الشعبي والوطني، خصوصاً في ظل إصراره على مسألة التوريث التي أخذ يعد لها منذ السنوات الأولى لمجيئه إلى الحكم، لذلك وتحسباً لما هو قادم عمل على استحداث مختلف فروع الأجهزة الأمنية على كامل مساحة البلاد، بات عناصر هذه الأجهزة يتواجدون عند كل نافذة وعند كل باب، لمراقبة الناس في يقظتها وحتى نومها، فكثر العسس وكتابة التقارير، وامتلأت المعتقلات بكل صوت مخالف.
ليس ذلك فحسب وانما جُنّد بعض قواعد الحزب وقياداته بكافة المستويات، كي تقوم بنفس المهمة، وهو بالواقع ما كشفت عنه واقعة اقتحام الناشطين في محافظة السويداء لعدد من مقرات البعث، من بينها شعبة الحزب في "شهبا"، والتي اتضح من خلال الوثاق والتقارير الحزبية التي تم الاستيلاء عليها، بأن هذه المقرات لم تكن سوى أوكار للتجسس على عموم الشعب السوري وعلى الرفاق وعلى الوطن بنفس الوقت.
لقد تكشّف من خلال تلك التقارير الحزبية أن من وشى على طلابه في آذار 2011 بأنهم هم الذين كتبوا على طريق دمشق السويداء في قرية أم الزيتون (الشعب يريد إسقاط النظام) بالتوازي مع ما دونه أطفال درعا من كتابات في نفس الأيام، كان هو مدير مدرستهم بالذات، بل اتضح أن من وشى بالطالب الجامعي "هناد" والذي تمت مطاردته في أنصاف الليالي في كروم القرية ثم اعتقاله لسنوات بحجة انتمائه لتنظيم معارض، دون أن يتمكن من متابعة تحصيله العلمي، أو وداع والده قبل أن يذهب في رحلته الأبدية، كان هو المسؤول الحزبي في القرية.
بالمناسبة حتى المنظمات الشعبية والنقابات المهنية، والتي من المفترض أنها الحامية الأولى لحقوق منتسبيها، أخذت تلعب نفس هذا الدور الهداّم، فمع بداية عام 2013 كنت في مدينة الرياض حينما اتصل بي مسؤول فرع نقابة المحامين في السويداء طالبا مني الحضور الى مقر فرع النقابة، وإلا أشطب من جدول المحامين، حين حضوري بعد أيام طُلب مني إما التوقف عن الكتابة في الصحف وإما الانتقال لفرع آخر، وهو بالواقع ما حصل تماما. بدوره نقيب الفنانين زهير رمضان لم يتوان عن تزويد الأجهزة الأمنية بأسماء زملائه الفنانين المعارضين، وهو ما صرّح به جهاراً في جلسة مجلس الشعب، بقوله: "هؤلاء غرباء، تجب محاسبتهم"، وأنه أبلغ الأجهزة الأمنية عن "الفنانين الذين لديهم تصريحات ومواقف ضد الدولة السورية” معتبراً أن "عودة البعض منهم وعملهم في مؤسسات الإنتاج الإذاعي والتلفزيون لهو أمر خطير". (العربي الجديد 10 نوفمبر 2018).
ختاماً وبالعودة للعنوان الذي أوردناه، فإن على الناشطين السوريين العمل على إقفال مقار ومكاتب حزب البعث، أينما تواجدت، ليس لأنها تحولّت لأوكار جاسوسية وفقا لما تمت الإشارة إليه فحسب، وإنما لانتهاكها الصارخ للمادة (8) من الدستور الصادر عام 2012 المتضمنة: "لا يجوز تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية".