كوارث الاستبداد ومآزق البلدان
"لا مصالح لديّ سوى مصالح شعبي، وإن تعارضت، فالأفضلية دائماً لمصلحة البلاد". هذا ما كتبه الإمبراطور الألماني، فريدريش الأكبر، عام 1752. وبينما أخذ يوّسع إمبراطوريته في الخارج، ويفرض هيبة القانون في الداخل، كان السلطان العثماني يوسِّع جناح الحريم والجواري إلى٥٠٠ غرفة!
في بلاد العرب تكرّرت نفس الحكاية، فبينما كان الأعداء على الحدود، يُعلون من صرح الديمقراطية وسيادة القانون، كان الحاكم يُضيِّقُ مساحة الحريات ويوّسع مساحة المعتقلات، وبدلاً من بناء الإنسان والقصور العدلية، أخذ يبني القصور الخاصة، ويكثر من فروع المخابرات.
عندما تولى الخليفة عمر بن عبد العزيز الخلافة، بعث للحسن البصري يسأله عن صفات الحاكم العادل، فأجابه: "اعلم أنّ الحاكم العادل كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده، فلا تكن كعبد ائتمنه سيده واستحفظه على ماله وعياله، فبدّد المال وشرّد العيال، فأفقر أهله وأهلك ماله"، أليس هذا هو حال بعض أقطار هذه الأمة؟ التي أدى فيها فساد الحاكم واستبداده، لفساد كلّ شيء فيها، من البشر حتى الحجر؟
بالقطع لستُ من أنصار "كما تكونوا يُولّى عليكم"، وإنما كما يكون الحاكم تكونون، والأمثلة على ذلك كثيرة، حيث لا يوجد حالة مجتمعية مشابهة للحالة السورية كما هو الحال في تركيا، من حيث الإرث الديني والتنوّع الإثني والعرقي والثقافي. إلا أنّ الفارق هو أنّ تركيا جاءها مخلّص اسمه مصطفى كمال أتاتورك، لم يحكمها نصف قرن، وإنما فقط ستة عشر عاماً، استطاع خلالها أن يضعها على سكة الدول.
بدوره، استطاع أول رئيس وزراء لسنغافورة، لي كوان يو، بحكمته وثقته بإرادة شعبه، أن ينتشل أصغر بلدان آسيا من الفقر، ليصل به إلى المرتبة الخامسة بين أغنى دول العالم من حيث الاحتياطي المالي، ومثله كان مصير الشعب الماليزي، الذي قاده، مهاتير محمد، على مدار ربع قرن فقط، لتحتل ماليزيا المركز الثاني، كأفضل اقتصاد تنافسي في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية وسنغافورة ثم لوكسمبورغ.
بعد أكثر من نصف قرن من ثقافة الحزب القائد ومسيرات التصحيح والإصلاح والتطوير والممانعة والتحصين... ها هي سورية قد تناثرت برمشة عين
وهكذا، فإنّ كلّ شعب لن يستطيع أن يمثل غير طبيعة الحكومة التي صنعته، ولهذا ترك معمر القذافي خلفه أمة تتناحر لأجل غير معروف، والعراق نفس الأمر، وأيضا في السودان، بلد الروائي الطيب الصالح، حيث خاطب الرئيس السابق، عمر البشير شعبه بالقول: "أتحدى أي زول عرف بالهوت دوغ قبل حكمي".
أما في سورية، منبع الحضارة، وعبق التاريخ بل بوابته، حيث "كل ذرة من ترابها هي حرف مضيء في سفر الإنسانية الخالد" وفقا لرئيس البعثة الأثرية الأميركية، جورجيو بوتشيلاتي. مع ذلك، وبعد أكثر من نصف قرن من ثقافة الحزب القائد ومسيرات التصحيح والإصلاح والتطوير والممانعة والتحصين... ها هي البلاد قد تناثرت برمشة عين.
في المؤتمر القطري السابع لحزب البعث 1979، وضع قائد تشكيل سرايا الدفاع العسكري آنذاك، رفعت الأسد، الرفاق المؤتمرين أمام مسؤولياتهم، مذكراً أنّ ستالين قضى على حياة عشرة ملايين إنسان في سبيل الثورة الشيوعية، متناسياً أنّ ستالين فرّط بكل شيء، إلا أنه لم يُفرِّط بالقانون، وهو ما تجلّى عندما قامت القوات الألمانية باعتقال ولده، فرفض إطلاق سراحه، مقابل إطلاق سراح أحد الجنرالات الألمان المحتجزين لديه، إلى أن لقي ابنه حتفه، لذلك كانت الدولة الروسية الحديثة التي نشاهدها اليوم.
دوماً على الشعوب أن تبحث عن رجل عظيم يستطيع أن يعبر بها بسلام نحو المستقبل، رجل يُقدِّر قيمة الإنسان، يعرف مدى أهمية القوانين، بدلاً من التلاعب بها، لا يخدع شعبه بالفلسفات الخطابية والشعارات الزائفة والأوهام. إنّ أكثر من تحدّث عن حجم المؤامرات التي تُحاك ضد هذه الأمة، هم الممانعون العرب، لكن ماذا أعدّوا ليجنبوا أوطانهم وشعوبهم هذا المصير الأسود؟.
لم يتركوا لنا نافذة أو ثقباً قد يَفلتُ منه بصيص نور، إنها حصاد سنوات الاستبداد المر
يروي سمير عطا الله أن الكاتب الليبي أحمد الفقيه كان يقول إنّ الجماهيرية حجبت عن التلاميذ الكتب وأقلام الرصاص، فيما كان سيف القذافي يدفع مليون جنيه إسترليني ثمناً لشهادة الدكتوراه. وفي عام 1979 دعا القذافي رؤساء الدول لاحتفالات الفاتح، لم يجد الضيوف غرفاً للنوم فيها، وفقا لما ذكره طبيبه الشخصي، الإدريسي الخيري خالد، في كتابه، العقيد ورفاقه وأنا، لا بل إن الطعام فسد، فتسمّمّ 200 شخص وذهبوا للمستشفيات.
الواقع لقد أضاع القذافي، ومثله بقية القادة العرب، أكثر من أربعين عاما في الهباء المدمر، لم يتركوا لنا مؤسسة واحدة إلا وصادروها أو دمروها، من الاقتصاد إلى التعليم والإعلام والنقابات المهنية، فبيوت الله الواسعة وأوكسجين الهواء... بل لم يتركوا لنا نافذة أو ثقباً قد يَفلتُ منه بصيص نور، إنها حصاد سنوات الاستبداد المر.
متى سيُدرك هذا الحاكم أهمية القوانين في حياة الأمم؟ السلطان العثماني، سليمان القانوني (1520 - 1566)، اعتُبر أعظم سلاطين الدولة رهبةً في قلوب الغرب، بل كان أشدّ خطراً عليهم من صلاح الدين نفسه، لذا يوم موته كان من أعياد الغرب وفقاً للمؤرخ الإنكليزي، هارولد ديكسون، لأنه وضع القوانين التي تحكم الدولة وعمل على تطبيقها بحزم.
بدوره، لم يكتف الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر، بالنجاحات العسكرية التي حققها، بعد أن فرض هيبة القانون وأخذ ينشر الأفكار التنويرية، بل كان يتطلّع لإنقاذ بلاده من حالة التخلّف الحضاري، والارتقاء بها لمستـوى بقية الدول الأوروبية. وعندما توفي في عام 1725، إثر تعرضه لحمى شديدة، كان قد أصيب بها أثناء سعيه لإنقاذ عدد من جنوده من الغرق في نهر جليدي في فنلندا.
ختاماً، ماذا لو كان هؤلاء الممانعون مستبدون عادلون بتطبيق القانون بدلاً من الاستبداد لصالح الأبناء والأعمام والأخوال والرفاق وأبناء الطائفة الواحدة؟ هل كانت سورية، كما هو حالها اليوم، وليمة هذا القرن؟