العنف ضد المرأة في العالم العربي (16)
عندما نتحدث عن "العنف ضد النساء" فإننا نشير إلى ظاهرة مرضية تسود في مختلف المجتمعات دون أن تتمكن القوانين الوضعية من وضع حد لها، ثم إننا نخلق من خلال ترديدنا لهذه العبارة علاقة وطيدة بين الضحية والجريمة دون أن نأتي على ذكر الجاني. يخيل للمتمعن في معنى هذه العبارة أن جرائم العنف هذه "تحدث" للنساء، هكذا ودون سابق إنذار، ولا يقف وراءها منفذ أو جانٍ. تنسب الممارسة الذكورية للعنف ضد المرأة لمجهول، كما لو أن الجرم يتبرأ من صاحبه في ألفاظنا المتواطئة والمذنبة.
تتعدد مسببات هذا النوع من العنف، ولكن المجتمع العربي لا يطالب المُعَنِّفَ بأسباب ممارساته العنيفة والقمعية تجاه المرأة، بل يمنح نفسه حق وضع تبريرات تافهة لهذا العنف، فيختلق عبارة "جريمة شرف" ليطبع مع العنف القاتل الذي يبيحه الرجل لنفسه كونه "رب الأسرة وعمادها".
إن تساهلنا مع أشكال العنف المتعددة هو الذي يمهد للعنف الجسدي الذي يودي بأرواح مئات النساء في الوطن العربي كل سنة؛ ففي غياب مساطر قانونية واضحة تمنع العنف النفسي واللفظي والاقتصادي ضد المرأة، تعاني النساء في صمت دون أن يتمكنّ من اللجوء إلى القضاء في حالة عدم وجود أدلة على عنف جسدي. زد على ذلك أن الفساد المتجذر في أوطاننا وغياب الاستقلال القضائي يجعلان القوانين الوضعية التي تُفترض بها حماية المرأة المعنفة أقل نجاعة.
إن ثقافتنا تسمح للتحيز الجنسي بأن يتكاثر في محيطات مهنية وأكاديمية، وبالتالي تحرم النساء من الاستقلال الاقتصادي الذي بوسعه حمايتهن من العنف الاقتصادي الذي يفتح الباب على مصراعيه لشتى أنواع العنف؛ فعندما تكون الضحية لا تملك ما يكفي من الموارد لمواجهة معنفها ووضع حد للعنف، فإنها تجد نفسها في مواجهة معضلة تعجيزية في ظل ندرة الحلول البديلة.
الفساد المتجذر في أوطاننا وغياب الاستقلال القضائي يجعلان القوانين الوضعية التي تُفترَض بها حماية المرأة المعنفة أقل نجاعة
ليست "الثقافة الذكورية" وليدة الأمس، بل هي نتاج سنوات مديدة شهدت حرمان المرأة من أبسط حقوقها قد عززت لدى كل من الرجال والنساء عدة أفكار رجعية تزعم بأن المرأة لا تملك من القدرة العقلية ما يجعلها ولية أمر نفسها وأنها في حاجة إلى تحكم رجل وسلطته على الدوام؛ الأمر الذي يتنافى مع معطيات الدراسات الحديثة التي تؤكد أن النساء أكثر إنتاجية ليس فقط في مكان العمل بل أيضاً في الحياة اليومية.
تؤكد الفيلسوفة الفرنسية "سيمون دي بوفوار" في كتابها "الجنس الآخر" أن الوظائف البيولوجية لا تصنع المرأة، بل العلاقات الاجتماعية والأدوار الجندرية المنوطة بها هي التي تجعل منها امرأة. ذلك بأن الصورة النمطية التي يختزل فيها المجتمع هوية النساء ليست انعكاسا لتركيبها الجيني أو طبيعتها البيولوجية، بل هي مجرد توقعات وأعراف اجتماعية لا علاقة لها بالفطرة. ولذلك فإن كل تلك الصفات المشينة التي ينسبها المجتمع للمرأة تبريراً للممارسات القمعية والعنف الذي تخضع له النساء ليست سوى صور نمطية خاطئة. إضافة إلى ذلك، فإن الرجولة أو "الفحولة" هي الأخرى قد باتت مرتبطة في المخيلة الثقافية العربية بالعنف والعدوانية – ما يسمى بالذكورة السامة – مما يجعل عددا من الذكور عرضة لاعتناق هذه الأفكار والمعتقدات المريبة ظناً منهم أنهم بذلك "يستعيدون رجولتهم". يفقد عدد منهم القدرة على التفكير المنطقي ما إن تنتابهم نوبة ذعر أخلاقي، فيتمسكون بما هو مألوف بالنسبة لهم، بتلك الصورة البشعة المحاكية للرجولة؛ هكذا تكرر دورة العنف الأسري نفسها جيلا بعد جيل.
إن النضال لأجل وضع حد للعنف الجندري ليس قضية النساء فحسب، بل هي قضية على المجتمع المدني بأسره تبنيها إن كنا نطمح لخلق عالم سوي ومسالم لجيلنا هذا وللأجيال اللاحقة، فما من مجتمع متآزر يقبل أن يتخذ دور المتفرج الأعمى والأصم أمام العنف والممارسات القمعية التي تتعرض لها المرأة. لا يمكن لنا أن نضع حدًا للعنف الجندري ما لم نتمكن من التغلب على الأفكار الرجعية المحرضة على العنف والتمييز على أساس الجنس، ولكن ذلك لا يكفي لردع الجناة وإنصاف الضحايا؛ لهذا تظل الوساطة القانونية الحل الأنسب في مجتمع لا يزال يبعد بمسافة طويلة عن تحقيق وعي جماعي حول تداعيات العنف ضد المرأة التي تترك أثرها السلبي على مختلف الشرائح الاجتماعية.