أنتِ مملكة تحكم حاكمها

05 ابريل 2023
+ الخط -

شاهدتُ ليلة أمس فيلمًا سينمائيا يحكي قصة فتاة في السادسة عشرة من العمر مصابة بمرض مزمن، تتأرجح أحاسيسها بين الرغبة في العيش وكراهية مطلقة للعنة الوجود الأبدية. كان الملل، ليلتها، قد ساقني إلى قاعة السينما، ولم أكن مخيّرا في خضّم هذه المغامرة الصغيرة، بل كنت خاضعاً لأشياء كثيرة تختلف مسميّاتها من عالم إلى آخر. 

رأيت نفسي في تلك الروح المتعبة لمراهقة تصارع الموت في ميدانه هو، وقد قرّرت أن تخوض غمار حرب لا منطق فيها ولا عدل. ولكنني، ما إن وطأت قدماي عتبة السينما، حتى باتت سخافة ذلك العمل السينمائي واضحة وجلية في ذهني الغارق في فوضى عارمة، كما لو أنني، ولوهلة، قد وضعت رداء الناقد والمحلل لأزحف عائداً إلى إنسانيتي، إلى فطرتي الموءودة. 

كان العمل تافهًا، بل فاشلًا إلى أبعد مدى، ولكن الموضوع الذي تمكن هذا الفيلم السينمائي من طرحه قد عوّض كثيرًا من النواقص في الجانب التقني المحض. لكم أرى نفسي غبياً وأنا أسمح لعواطفي أن تسيطر على رأيي وعقلانيتي المتبناة. ولكنني والحق لا يُقال، لا ألام على هذا التغيير الجذري الذي حلّ بي. أو ليس الحبّ قادرًا على أن يزحزح الجبال من أماكنها ليتيح لروحين متحابتين فرصة لقاء ينسيهما جور الفراق؟

عاد لي طيف أحلامي الضائعة، تلك التي حملتها من مدينتي شقية القدر "صبراتة" التي تعيش في دواخلي أينما حللت وارتحلت، عادت لي تلك الأماني التي تخليت عنها بمحض إرادتي فرارًا من نوبة الموت المعدي التي كان يصارعها وطني البئيس، عادت لي كلّ الأشياء التي تسرّبت من قبضة إرادتي العنيدة حين لمحت وجهها السمح ذات مساء، وأنا أتجوّل بين شوارع مدينتها العاتية الأمواج. جاد عليّ بحر رباط الفتح بامرأة كالحلم، بل وهبني خلاصًا ليس بعده خلاص، وقد عرفت ليلتها أنني سأقضي ما تبقى لي من الوجود ممتنًا لحسن صدف هذا الكون العجيب. كانت "نوميديا" النجمة الأكثر إشراقًا في مدينة الأنوار،  لكم مرّة كدت أن أفقد البصر في ظلمة الغربة الموحشة لولا أن انتشلني نورها من عذابي الأزلي، ولو لبضعة أيام. 

حبي لها لا يخضع لسلطة المنطق، هو حب شَرِهٌ مندفع يقودني نحو الثمالة بأقصى سرعة

تشبه الرباط صبراتة إلى حد كبير. يخيّل إليّ أحيانا أنني ما غبت عن الوطن يومًا ولا عشت أفول السلام بحذافيره، وأنا أرى الحرب تسبي كلّ ما أملك؛ بيتا وأسرة ممتدة، ومكتبة ورثتها عن جدي الأكبر. منذ لمحتها أصابتني رغبة ملحة في الكتابة، كتبتُ عيناها أشعارًا ونصوصًا، كتبتُ سماء صبراتة وليلها، بحرها ومآسيها، كتبت حتى تلك الأسرار التي كانت تقطن في دواخلي لعقد من الزمن. حبي لها لا يخضع لسلطة المنطق، هو حب شَرِهٌ مندفع يقودني نحو الثمالة بأقصى سرعة. معكِ، فقط معك، عشت تاريخكِ المنسي ومشيت في دروب قسطنطينيتكِ دون أن أخشى التيه في متاهاتك، أو أن تلدغني ورودكِ الشائكة إن أنا مددت يدي لأقطفها.

أنتِ مملكتي التي تحكم حاكمها، أنتِ الأرض التي انسلت على أبوابها سيوف الغزاة، أنتِ الأرض التي لا تبور مهما مضى عليها الزمان.

أفنيت شبابي الأشيب وأنا أنظم قصائد الغزل لصبراتة، لماضيها وحداثتها، لمستقبلها الذي لا يُرى بالعين المجرّدة أو المتجرّدة من السياق التاريخي. ولكنني اليوم، وإلى الأبد لن أنظم شعراً إلا إن كنتِ أنتِ موضوعه، وزنه وقافيته، بحره وأساليبه. لم أعد أرغب في شيء سوى أن أموت على يديك قرابة الألف مرّة في اليوم، أن أسقط جريحَ حربٍ أمام سيف غنجك وأستعيد قواي لأستمتع بموتي حتى الشبع.  

أضحيت غريقك "نوميديا"، فهل لك أن تنتشلي جسدي المنهك من لبّ بحرك الهائج؟ هل باستطاعتك أن تعيديني إلى برّ الأمان دون أن تجهزي على ما تبقى لي من هذه الذكرى الفاتنة؟ أريد أن أتذكر في ما بعد كلّ تفاصيل غرقي ونجاتي، أن أصول وأجول في مخيلتي كلّما غاب طيفكِ المؤنس لأجدك مختبئة بين حدث وآخر، وأنتِ تدوسين على فؤادي بعنفوان ملكة.

دلالات
آية العزوق
أية العنزوق
كاتبة وطالبة جامعية باحثة في مجال علم النفس، مهتمة بالقضايا السياسية والاجتماعية. لها عدّة مقالات وقصص قصيرة في الصحف والمجلات. تعرّف عن نفسها بقول للكاتبة فرجينيا وولف "رغبتي للحُب لم تخبو وتذبل، فما تزال بداخلي أحاسيس التوق والهيام ولا أستطيع أن أُظهرها للعلن، أوليست أرق وأعذب المشاعر تِلك التي نجعلها محبوسة بداخِلنا؟!".