وقفة على أطلال الآمال

08 أكتوبر 2014

كثيرة الآمال التي أصبحت، أو تكاد أن تصبح، أطلالاً(19سبتمبر/2014/Getty)

+ الخط -
يقال إن شعراء العرب في الجاهلية، وكانوا أهل نظر ورؤية وقول وحكمة، كثيراً ما كانوا يقفون على أطلال ما كان في المكان والزمان، ليطلقوا العنان لقولهم الشعري، الخاص والعام، في ما هو كائن وما سيكون، إن ندبوا حظهم على ما كان، فإنهم كثيراً ما يشحذون الفكر للنظر في ما هو كائن بجدية أكبر للفوز به، وللذهاب أبعد نحو ما هو مراد غداً. وبذلك، أنجب هؤلاء، ومنهم امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى، حكمتهم التي مهدت السبيل ليقظة وثورة فكرية كبرى فيما بعد.

تُرى، أي شعر أو قول سيقوله بعض حكمائنا اليوم، إذا ما وقف عند آمالنا الكبار التي انتظرنا تحقيقها على امتداد القرن الماضي، وهي تغوص في الزمان، وتتحول أطلالاً وذكرياتٍ، قد لا يجرؤ بعضنا على مجرد تذكرها، وما آلت إليه، خوفاً على نفسه من أن يصاب بعصابٍ، أو مسّ من جنون.

ولدنا في بحر من الآمال الكبيرة، وكتبنا على رماله كل رسائلنا الخالدة وأهدافنا الكبرى، وبنينا عليها كل ما رغبنا وتمنينا من تصوراتٍ مستقبليةٍ، حلمت بها الأجيال المتعاقبة، وكانت سياساتنا وثقافاتنا وآدابنا وأفكارنا بمثابة جداول وأنهار، تصب في بحر الآمال ذاك، وكنا، حيثما توجهنا، نتوهم أننا نتقدم نحو تلك الآمال، ونتوهم بعد خطبةٍ من هذا أو ذاك أننا نحتفي بتحقيقها.

كتبنا شعاراتنا وأهدافنا وآمالنا، كما لو كنا نكتب شعراً حماسياً، وظننا أننا نكاد نقطف آمالنا غداً، أو بعد غد، وإن لم يكن ففي الربيع المقبل حتماً. ولم نميز بين ما يمكن قوله شعراً وعاطفة ورغبة وأمنية وما يستوجب عقلاً وإرادة وفعلاً متراكماً يواجه الصعاب، ويجترح الحلول، ويستفيد من الأخطاء والإخفاقات، للتقدم إنجازاً بعد إنجاز.

كثيرة الآمال التي أصبحت، أو تكاد أن تصبح، أطلالاً إذا ما واظبنا على هبوط المنحدرات التي تأخذنا، منذ فترة، نحو الهاويات. والمؤلم أن من صاغ آمالنا لم يحدد لنا شيئاً من سبل مقاربتها واقعياً، والجهود التي يجب بذلها، والإمكانات التي لا بد من توفرها، والتضحيات التي يجب تقديمها، والمراجعات التي لا بد منها، لتلافي الأخطاء والاستمرار في التقدم. أما أكبر الآمال وأهمها التي نزداد ابتعاداً عنها، وبدأت تتحول أطلالاً فهي:

الوحدة العربية، حيث فشلت جهود أربعة أحزاب قومية (القوميين العرب والاتحاد الاشتراكي العربي والبعث في سورية وفي العراق) في تحقيق أي وحدة بين قطرين عربيين (عدا اليمن الذي توحد شمالاً وجنوباً بعد اندحار القوميين في الجنوب، ووحدته مهددة اليوم)، وبدل أن تتحقق أي من الوحدات العربية، نلحظ ازدياد الانقسامات بين الدول العربية، ونلحظ أن دولاً عربية مهددة فعلاً بالتفكك والانقسام إلى دويلات.

الاشتراكية، أعلنتها هدفاً وأملاً الأحزاب القومية التي حكمت مصر وسورية والعراق وجنوب اليمن، وأعلنتها هدفاً من قبل أحزابٌ وتنظيمات كثيرة في كل واحدة من الدول العربية. وقد تحققت خطوات كبيرة على الطريق إلى الاشتراكية، في الدول المشار إليها، إلا أن كثيراً من تلك الخطوات يتم التراجع عنها بسرعة، لمصلحة النهج الرأسمالي المغاير.

الحرية، رفعتها شعاراً وهدفاً وأملاً الأحزاب القومية والوطنية والاشتراكية، إلا أن ما تحقق كان معاكساً لها، بذرائع المواجهة مع الأعداء والخصوم. ومع انطلاق ما عرف بالربيع العربي، وبدل أن تحضر الحرية معه، حضرت أعمال عنف واقتتال، سلبت الناس بعض ما كان من حريات في بعض الأقطار.

تحرير فلسطين، الهدف والأمل الذي لم يعد يتذكره، أو يريده، أحد، بعد أن تم تصغيره إلى دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ أكثر من أربعين عاماً، ويجري، الآن، تصغير مساحة الدولة المنشودة، وتلغيم كل أساس يمكن أن تقوم عليه.

الاستقلال، كان أملاً للأجداد، وقد حققوه بعد طول كفاح ومعاناة، يكاد الأحفاد أن يحولوه أطلالاً في أكثر من بلد، بفعل الاحتراب الحاصل، وبفعل استجداء بعضهم التدخل الأجنبي، ممثلاً بأحفاد سايكس بيكو والعم سام، لفرض إعادة تقاسم دولنا وتقسيمها بما يتلاءم مع أعدادهم الحالية.

كثيرة الآمال التي تتحول أطلالاً، بعد أن هجرها من صاغها، ودعا إليها، وبعد أن ابتعد عنها ورثتهم، حين أدركوا أنهم يسيرون بعكس اتجاهها، تارة مجبرين ومضطرين، وتارة مؤجلين السير بحسن نية، أو اعتماداً لنهج الظنون سبيلاً للوصول إليها، وفي مقدمتها الظن أن اعتمادها أملاً كفيل بتسديد الخطى والمسار، وأن جعلها أملاً مرغوباً ومطلوباً من العامة سيسرع الوصول الحتمي إليها.

وأمام ذلك كله، الباحثون والمفكرون العرب مدعوون للوقوف على أطلال ما كان آمالاً، ربما لاكتشاف أن كثيراً منها - إن لم يكن كلها - كانت بمثابة يوتوبيات صعبة المنال، أكثر منها آمالاً أو أهدافاً ممكنة التحقيق، بسبب ضعفنا وتفرقنا أشتاتاً، حتى ونحن نؤسس أحزاباً قومية، لتحقيق الوحدة وتحرير فلسطين. وهم مدعوون أكثر، للبحث عن أجوبة على تساؤلاتٍ قد تبدأ ولا تنتهي، وفي مقدمتها كيف ولماذا بددنا آمالنا، وأضعنا البوصلة القادرة على تحديد اتجاه حركتنا وتقدمنا نحوها، ولماذا تركناها تتحول إلى يوتوبيات، ولم نعتمد العقل منهجاً وفكراً وتخطيطاً. ولماذا لم نسمع صوت بعض عقلائنا، وهم يحذرون وينذرون ويقرعون أجراس الخطر، للمسارعة إلى رسم أهداف قريبة متتابعة ومترابطة، والأهم لماذا لا نزال محكومين بالخوف والضعف، ونعتمد نهج التراجع عند أول مواجهة. هل نعيش عصر البدد والتبدد والتذرر، بدل الوحدة والتعاضد والتقدم؟