"فتح" والمغامرة الفلسطينية الكبرى
عندما أطلقت فتح الرصاصات الأولى، معلنة بداية الثورة حتى النصر، لم يتصور أحد من مؤسسي حركة فتح، ومطلقي فكرتها ورصاصاتها الأولى ورافعي شعارها التاريخي (ثورة حتى النصر)، أن الثورة قد تستمر خمسين عاماً، من دون أن تحقق النصر المنشود، أو أنها قد تستمر خمسين عاماً أخرى، ريثما تحققه، وأنها، في الطريق إلى ذلك، قد تواجه أهوالاً من كل صنف، وأعداء ليسوا في الحسبان، وحروباً لم تكن تخطر في بال، ومؤامرات تتوالد وتتكاثف ذاتياً، من دون توقف من العدو والصديق، ومرات من الشقيق والشفيق.
ما يؤخذ على الثورة –المغامرة، ويسجل لها وعليها، قدرتها الأسطورية على الاستمرار، على الرغم من كل تلك المهالك والعواصف والمنزلقات والانفجارات، على الرغم من أنها لم تنطلق بعد دراسة وتحليل معمقين، وتقديرات واقعية لمختلف أوجه القوة والإمكانات الذاتية والموضوعية الصديقة والمعادية، ولمختلف الاحتمالات القريبة والبعيدة، المنتظرة وغير المنتظرة، والممكنة والمستحيلة، بل انطلقت، وهي أقرب إلى فكرة ثورة، أو كرصاصات أولى خارقة جدران الصمت وحدود النكبة. وبتعبير أدق، كانت أمل ورهان ثورة على نهوض واستنهاض وتثوير، نهوض شعب وبعثه موحداً، واستنهاض أمة من أجل مناصرته في ثورته لاستعادة وطنه وعودته إليه.
ظن القادة المؤسسون أن الثورة قد تكون استمراراً لثورة عام 1936، وللمقاومات الفلسطينية والعربية التي جرت عام 1948، وإن صعب الأمر، ستكون، كما ثورة الجزائر، ضد فرنستها، بضع سنوات ويتم التحرير والعودة! ولم يتنبه أولئك إلى أن بعض عوامل الفشل، في أعوام 1936 و1948، لا تزال تنخر في الجسد المنهك، وأن الفوارق مع ثورة الجزائر كجبال أطلس يصعب تخطيها. وكان الاعتقاد أن وجود جمال عبد الناصر في مصر، وانتصار ثورتي الجزائر واليمن بدعم من مصر، وتسلم البعث الحكم في العراق وسورية، وانتشار المد القومي والتحرري الثوري العربي والدولي، ذلك كله قد أوجد ظروفاً تهيئ الطريق لفعل فلسطيني نشط نحو النصر، وإن ليس عليهم سوى المبادرة إلى إطلاق الرصاصات الأولى، ليكونوا مشعل الثورة وهاديها، وليجتمع كل هؤلاء الأشقاء على دعم ثورتهم وإسنادها، بعد أن اجتمعوا على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، إطاراً كيانياً جامعاً وممثلاً للفلسطينيين وقضيتهم في قمة العرب الأولى، ولم يدرك المؤسسون أن البطولات الإعلامية والخطابية لا تساوي شيئاً على أرض الواقع، وأن الانقلابات والمؤمرات قد أنهكت الجيوش والدول العربية، وأن العدو المتربص يقرأ الوقائع الفلسطينية والعربية أفضل كثيراً من القيادات والنخب الفلسطينية والعربية، وأنه مستعد دوماً ليس من أجل مواجهة أمر اليوم، بل لمواجهة أمر الغد القريب والبعيد. ولذلك، سرعان ما جاء عدوانه عام 1967 رداً على كل تلك التطورات، وما تحمله من أخطار، ومنعاً للفلسطيني المقاوم عسكرياً (فتح) من جعل الضفة الغربية وقطاع غزة قواعد لكفاحه المسلح وثورته، للانطلاق منها إلى تحرير فلسطين، ومنعاً للفلسطيني المقاوم سياسياً (منظمة التحرير) من جعل الضفة والقطاع قاعدة لدولة فلسطينية، قد يعلن عنها (إذا ما استجاب الأردن للضغوط الفلسطينية والقومية، وألغى قرار مؤتمر أريحا ضم الضفة إلى الأردن)، ومنعاً للعربي الناصري والبعثي والتحرري من الاستمرار في المناداة والدعوة والتفكير بتحرير فلسطين وإجباره على تركيز تفكيره على تحرير ما احتل من أرضه عام 1967، أو التفاوض مع إسرائيل، والتصالح معها، لاستعادة تلك الأرض، وعودته إليها، بدل استعادة فلسطين، وعودة الفلسطيني إليها.
بعد عدوان 1967، وما احتلته إسرائيل من أراض شاسعة (أربعة أضعاف مساحتها)، بدا واضحاً أن الطريق إلى تحرير فلسطين أصبح أكثر بعداً وصعوبةً، وأقرب إلى المستحيل منه إلى أي شيء آخر، في ظل الظروف الذاتية والموضوعية، سواء ما كان منها قديماً مستمراً أو حديثاً مستجداً. فالعمل المسلح أصبح من خارج فلسطين، ولم يعد من أرضها (الضفة والقطاع) كما كان يعول المؤسسون، وأصبح، بالتالي، رهن العلاقة مع دول الجوار والأشقاء الحاكمين، ولكل منهم حساباته الخاصة به، بعيداً عن فلسطين والفلسطينيين.
فرض ذلك وعياً جديداً بأن تحرير فلسطين واستعادتها يستوجبان، أولاً، من القيادة الفلسطينية العمل من أجل استعادة الفلسطينيين كشعب، (وليس كمجموعات لاجئين)، تحت الراية الفلسطينية الموحدة، وفي إطار منظمة التحرير (فكان تولي قيادة فتح والفصائل الأخرى قيادة المنظمة عام 1968)، وكانت من ثم مرحلة جديدة من المغامرة، عبر فرض المنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، والاعتراف بها كذلك عربياً ودولياً، ومعها كانت بداية مرحلة خلافات واشتباكات مع دول وقوى عربية، طوراً على تمثيل المنظمة الفلسطينيين أينما كانوا (وكان أهم الإنجازات بعد الانتفاضة الأولى قرار الأردن عام 1988 فك الارتباط مع الضفة الغربية، والتسليم للمنظمة بتمثيل الفلسطينيين هناك، وفي الوقت نفسه، استمرار الأردن في رفض تمثيلها الفلسطينيين في شرق الأردن، وهم التجمع الفلسطيني الأكبر خارج فلسطين، ومنع فصائلها من مزاولة العمل التنظيمي والسياسي والعسكري، أو غيره في المدن والمخيمات التي يقيمون فيها)، وأطواراً على القرار الفلسطيني واستقلاليته، بدعوى عدم أحقية القيادة الفلسطينية في التصرف بهذا القرار، من دون تنسيق وتشاور مع الأشقاء، وأخذ مصالحهم في الاعتبار. وتم التعبير عن ذلك، أحياناً، بفرض وإحداث انشقاقات ومعارضات، سواء على مستوى قيادة المنظمة ومؤسساتها، أو في قيادة وقواعد حركة فتح، أو من خلال جبهات رفض تضم فصائل عدة، مهمتها رفض قرارات وتوجهات قيادة المنظمة وتوجهاتها، والطعن بأهليتها ووطنيتها، الأمر الذي ظهر جلياً مع التوقيع على اتفاق أوسلو، وقاد، ولا يزال، إلى اختلال واعتلال كبيرين في منعرجات المغامرة الفلسطينية، وبدأ بإضعاف القرار الفلسطيني وتهديد استقلاليته، وجعله عرضة للضياع، وظهر في تهديد وحدة ووجود الأطر التمثيلية للشعب الفلسطيني، سواء كانت منظمة التحرير، أو السلطة الوطنية، أو حركة فتح كونها العمود الفقري للكفاح الوطني الفلسطيني. والأخطر أنها أخذت تؤسس، أخيراً، لانشقاقات كبرى على مستوى وحدة الشعب داخل فلسطين وخارجها، حيث يجري تغييب المنظمة لمصلحة فصائل أو لمصلحة سلطة تعمل إسرائيل، وقوى أخرى، على إضعافها ودفعها إلى حل نفسها.
بدأت المغامرة الكبرى قبل خمسين عاماً، ولم تنته فصولاً بعد، وهي قادرة على التجدد، على الرغم من كل الصعاب، فالفلسطيني لا يملك سوى خيار التجدد والاستمرار في التقدم على دروب النصر، مهما بدت ضيقة أو ملتوية، أو حتى مغلقة، ففي التجدد يكمن وجوده وصيرورة ثورته وانتصارها.