المنطقة العازلة خطر على غزة
يتجه قطاع غزة إلى حالٍ أكثر سوءاً من كل ما عرفه سابقاً، بعد قرار مصر إنشاء منطقة عازلة معه، وما قد يترتب على ذلك من ضغوط وتهديدات مزدوجة، هدفها الدفع به نحو انفجار لا يبقي ولا يذر، أو استسلام قاتل ومجهض لكل روح وإرادة مقاومة لدى أي من أبنائه.
ما يدفع إلى هذا القول ليس فقط مفاعيل العدوان الإسرائيلي، أخيراً، واستمرار التهديدات الإسرائيلية، وتوقف المفاوضات التي استضافت القاهرة افتتاحها بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، وكان يعول عليها للتوصل إلى اتفاق يتيح فك الحصار المزدوج المفروض على القطاع، وإنما أيضاً ما ذهبت إليه السلطات المصرية، أخيراً، من سياسات وإجراءات وممارسات على الأرض، تنم عن مرحلةٍ جديدة كلياً، وغير مسبوقة في العلاقة بين مصر والقطاع، عنوانها المعلن الحفاظ على أمن مصر، وعنوانها المضمر التمهيد لعداء عاصف مع القطاع، طالما استمرت حماس في حكم القطاع، ومناهضة حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
لم يتوقع أحد أن تصل العلاقة المصرية مع القطاع إلى هذا الدرك من السوء، في وقت يحتاج فيه القطاع إلى كل يد قريبة أو بعيدة، مهما كانت قوتها لمساعدته في الخروج من أزماته الخانقة، ومن دائرة الاستهداف الإسرائيلي، فكيف إذا كانت هذه اليد مصرية، وكيف إذا كانت أي يد تريد أن تمد القطاع بالمساعدة، لا بد أن تمر من مصر، ومعابرها مغلقة بإحكام، وقد أضيفت إليها منطقة عازلة.
فقد شهدنا، منذ أشهر، تواتراً ملحوظاً في الاتهامات المصرية لحركة حماس، بوصفها السلطة الحاكمة في القطاع، بذرائع شتى، كان في مقدمتها تأييدها الرئيس المعزول، محمد مرسي، وحكم الإخوان المسلمين، ثم تتالت اتهامات من نوع أخطر، عندما بدأت أصابع الاتهام تشير إلى حماس والقطاع، بوصفه موئل ومصدر تغذية الجماعات المسلحة المصرية المصنفة إرهابية في عملياتها ضد القوات المصرية في سيناء. وكان من نتيجة ذلك إغلاق معبر رفح، الممر الوحيد بين القطاع ومصر، بإحكام شديد بالاتجاهين، حتى في ذروة العدوان الإسرائيلي أخيراً على القطاع.
وكانت من ثم الحملة التي قامت بها السلطات المصرية لهدم وإغلاق عشرات (وقيل مئات) الأنفاق المحفورة تحت الأرض بين القطاع والأراضي المصرية المجاورة، والتي كانت ممراً لدخول وخروج الأفراد الفلسطينيين بين القطاع ومصر، وممراً لإدخال المواد الغذائية والضرورية إلى القطاع، لتمكين أهله من مواصلة العيش والصمود في ظل الحصار.
وأشاعت السلطات المصرية، آنذاك، أن هدم تلك الأنفاق وإغلاقها سيحول دون وصول أفراد من الجماعات المصرية المسلحة (المختبئين) في القطاع إلى سيناء، لمعاودة مهاجمة القوات المصرية، وسيحول دون إمداد الجماعات الموجودة في سيناء بالأسلحة والذخائر من قطاع غزة، إلا أن هدم كل تلك الأنفاق لم يؤد، فعلياً، إلى هدوء في سيناء، إذ سرعان ما نفذت الجماعات المسلحة مزيداً من العمليات ضد القوات المصرية، وكبدتها خسائر أكبر (ما يعني أن الجماعات المسلحة لا تتخذ من قطاع غزة منطلقاً لها، ولم تجعل منه مستودعاً لأسلحتها، ولا من الأنفاق ممراً لها)، وهو ما اتخذت منه السلطات المصرية، مرة أخرى، ذريعة للذهاب أبعد في إشهار العداء للقطاع، وذلك عندما قررت وباشرت، على الفور تنفيذ مخطط قديم بإقامة منطقة عازلة على امتداد حدود القطاع مع مصر، والبالغة 14 كيلومتراً، وبعمق قد يصل إلى 2 كيلومتر، وبعضهم يقول 5 كيلومترات في الأراضي المصرية، مرحلة أولى تليها ثانية، تتضمن إقامة ستائر حديدية غير قابلة للاختراق، وحفر قناة مائية عريضة على امتداد الحدود.
إنشاء هذه المنطقة العازلة لن يكون مردوده الأمني على مصر أفضل من هدم الأنفاق وتدميرها، فالقطاع لا يشكل قاعدة، أو مخزناً للجماعات المصرية المسلحة، ومن الغباء التفكير أن تتخذ هذه الجماعات منه (بمساحته المحدودة جداً وبما هو فيه من حصار من كل الجهات وبما يمور به من كتلة ديموغرافية هي الأكثف في العالم، ضمن هكذا حيز جغرافي) قاعدة ومخزناً لها، بينما أمامها سيناء بأكملها تشكل ميداناً قارياً (الانتشار العسكري المصري فيها ضعيف، بحسب مقتضيات معاهدة السلام مع إسرائيل)، وفيها تنوع جغرافي كبير من الشمال إلى الجنوب، حيث الصحراء والجبال، وما فيها من كهوف وممرات والواحات وحتى الموانئ، وفيها مجموعات بشرية متنوعة ومتناثرة (يقدر عدد سكان سيناء بأقل من مليوني نسمة) بعضها يسكن في مدن كبيرة، كالعريش، وبعضها في قرى صغيرة، وبعض ثالث اعتاد حياة البداوة والتنقل في جنبات هذه الصحراء المترامية الأطراف.
من غير المتوقع أن تؤدي إقامة هذه المنطقة إلى وقف عمليات الجماعات المسلحة في سيناء، الأمر الذي يطرح أسئلة خطيرة عمّا إذا كانت أصابع الاتهام المصرية ستظل موجهة إلى حماس وقطاع غزة في تغذية هذه المجموعات؟ وعن الإجراءات والسياسات التي ستلجأ إليها السلطات المصرية بعدئذ؟ وهل ستلجأ إلى استخدام القوة، عقاباً أو انتقاماً؟
تؤكد الأنباء المصرية ازدياد رقعة العمليات التي تنفذها هذه الجماعات واتساعها في عموم المحافظات المصرية، مع تواتر الأنباء عن تهريب أسلحة عبر الحدود مع ليبيا وغيرها، الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً للقيادة المصرية، ويفرض عليها رسم واتباع سياسات واستراتيجيات أكثر حكمة وشمولاً لمواجهة الأخطار التي تتهدد مصر، داخلياً وخارجياً.
والأخطر على هذا الصعيد هو في انعكاس كل هذه الإجراءات والسياسات، راهناً ومستقبلاً، على قطاع غزة سياسياً واقتصادياً، وغير ذلك إذا ما استمر الحصار وإغلاق المعابر، الأمر الذي يفرض على قيادة حماس، ومعها قيادة السلطة الفلسطينية، إجراء محادثات مكثفة مع القيادة المصرية، لإصلاح ذات البين، وإنجاز مصالحة بين قيادة حماس والقيادة المصرية. طبعاً بعد ترسيخ المصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية، المطلوبة أولاً وفوراً، وخصوصاً أن غزة لا تمتلك ترف الانتظار، أكثر مما انتظرت على المعاناة التي تزداد شدة، ولا تملك خيارات كثيرة وأوراقاً قوية، مع ازدياد الظروف الداخلية والخارجية تأزماً وتهديداً بانفجارات لا تحمد عقباها.
فالسلطات الفلسطينية في الضفة، كما في القطاع، لا تملك فائضاً من الوقت، تبدده في الاستمرار في ترامي المسؤولية عن استمرار الانقسام، وتعطيل مسيرة الوحدة الوطنية، والتلهي بالصغائر من الاتهامات، بينما الوقائع على الأرض، ومن الاتجاهات كافة، تتراكم وتتزاحم، منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور.