عن وزراء وحاشيةٍ تم تحنيطهم

02 يناير 2020
+ الخط -
بعد كل تغيير وزاري في مصر، يتنهّد الناس في المقهى، من دون أن يتركوا لعب الطاولة، فقد بات الأمر مملا أكثر من البيوت ونكدها وتجهُّم الزوجات على مدار ثلاثين سنة في حكم حسني مبارك، إلا بعد "30/ 6"، فقد اختلف الأمر، ثورة، كما قيل، غنّى فيها حكيم وسمير الإسكندراني كسيد درويش، ولكن من قلب الأستديو، وقبل أن تبدأ بشائرها أيضا، وتلك أعجوبةٌ ثوريةٌ لم ينافسنا فيها أحد، لا من أيام الثورة الفرنسية ولا قبلها ولا بعدها، فقد كان الناس على موعدٍ مع ابن جمال عبد الناصر وخليفته، وشارب كل دسمه ومروءته، وخصوصا بعد ثورةٍ غنّت لها الركبان وجاءتها المليارات من كل حدبٍ وصوب، وحققت أغراضها تماما في نصف ساعة بعد المغرب، ووقف فيها (في ميدان التحرير) ثلاثة وزراء داخلية مصريين بجوار اليسار بأطيافه التجمعي والراديكالي والناصري.
وانتظر الشعب الوزراء، وزراء ثورة نبتت من آهات الشعب، لأنه خرج لها (33 مليوناً)، ولم يمكث في البيوت سوى العجائز والقواعد والمرضى والأطفال بالطبع ونزلاء المستشفيات ونزيلاتها، فخرجت علينا حكومة حازم الببلاوي، فقلنا الشعب ها هو قد نجح، ونصّب نخبته في صدر الوزارة، ومعه حسام عيسى وزيرا للتعليم العالي، وزياد بهاء الدين نائبا لحازم الببلاوي، بالإضافة إلى ثائر من قلب الشعب أيضا، وهو كمال أبو عيطة، علاوة على عصام حجي مستشارا علميا للرئيس، ومصطفى حجازي (المفكر الذي يتقن الإنكليزية ومخاطبة دوائر الغرب) مستشارا سياسيا للرئيس، علاوة على رديف إعلامي بصالون لعبدالله السناوي على شاكلة حسنين هيكل، والتلميذ أيضا يعمل عمل الأستاذ ويسدّ مكانه.
وبدأت المسيرة بهذه الهالة المعرفية من حملة الدكتوراة التي سوف تتوّج بالدماء في ميداني رابعة العدوية والنهضة وغيرهما. ويذهب حازم الببلاوي إلى الأمم المتحدة عريسا متوّجا بدماء المذابح، ويقبع حسام عبسي في معتكفه القانوني الدولي من دون أي تصريح قانوني أو سياسي أو حتى فني طوال ست سنوات، ولا أحد يعرف أين ذهب مصطفى حجازي (المستشار السياسي للرئيس عدلي منصور) بعد انقضاء الغرض، وتحوّل عصام حجّي إلى معارض من "ناسا". وعادت سكينة فؤاد إلى بيتها، وأحمد المسلماني إلى الإعلام، وكمال الجنزوري إلى مكمنه، وانهدم سامر عبدالله السناوي وصالونه السياسي، وخاصمته الفضائيات التي كان يجلجل فيها ليل نهار، أما كمال أبو عيطة فقد خاصم كل الميادين حتى ميدان العتبة، وقيل إنه قد عاد إلى مطعم الكباب والكفتة، وفرّ محمد البرادعي إلى أصقاع أوروبا هروبا من الدم، ولم يعد. 
هل كان ذلك كله مجرّد حيلة، أن تشكل "حكومة زنقة" من وجهاء المثقفين والعارفين والدكاترة والأيديولوجيات (تشيل دم المقتولين) إلى أجل معين، وبعد ذلك تنظف الساحة منهم، وكي يتأكد الشعب أن قاتله هم هؤلاء وليس الضبّاط، فالضابط ما هو إلا أداةٌ تحت إمرة القاضي، والقاضي حكم بأمر الحكومة، وما الضابط سوى منفذ للأمر كغلبان، كي يظل الدم في رقبة الببلاوي، تلك كانت أول مصيدةٍ لأصحاب الياقات البيضاء من العسكر، حتى استتب الأمر، فخرج صاحب الباريه من تحت الباريه وخلع نظارته، وأعلن ترشّحه، فقد شال الببلاوي غمة الدماء ومشى. ثم بدأ التفكير من العسكر فيمن هرب من تحت وصايتهم، من أصحاب الياقات البيضاء من المثقفين، في معمعان الثورة واستقال. كان ذلك هو جابر عصفور، فأتوا به ثانيةً وزيرا، كي يتم رميه ويعرف معنى الأدب. والوحيد الذي أفلت بكرامة كان هو عماد أبو غازي. ثم توالت الاستعانة والرمي، صابر عرب (مرتين وزير) وشاكر عبد الحميد وحلمي النمنم بعدما "عمل عجين الفلاحة ورقص بخمسة قرود فوق ماجور عجين"، إلا أنه أيضا تم استبداله بعازفة فلوت أيضا.
يتبقّى الإعلام، بعدما أزاحوا عنه أسامة هيكل، بعد المذبحة أمام مبنى ماسبيرو، احتراما لمشاعر الإخوة الأقباط، وخصوصا بعد تصريحات مذيعاته غير المهنية، ولا حتى الإنسانية، وأعطوه مدينة الإنتاج الإعلامي، وجاءوا بدكتورة لها ذلك القبول اللافت لدى المشاهدين سنوات، درّية شرف الدين، ثم أزاحوها، إلى أن انتهى الأمر بالدعوات الملحّة لعودة الإعلام وزارة، فلم يجدوا لديهم سوى المراسلين العسكريين أيضا.
كل شيءٍ لا بد أن يرجع إلى جذوره، فلوّحوا بياسر رزق أولا، وحينما أدركوا أنه لم يجد قبولا، أو أقلّ من المهمة، عادوا إلى أسامة هيكل. وفي النهاية "اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش، وده راجل كل وشرب معانا من نفس الزمزمية". ولا عزاء لأصحاب الياقات البيضاء، فقد تم نسيانهم تماما من المشهد كله برمته، كما تم نسيان علي السلمي وآخرين.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري