بعض المثقفين العرب لديهم انخراط في الشأن الفلسطيني، وتتيح وسائل التواصل الاجتماعي اليوم متابعة مواقفهم وآرائهم، بينما ينصرف مثقفون عرب آخرون إلى مشاريعهم الفكرية والإبداعية التي يرون أنها الأبقى وأنها تساهم في التحرّر على المدى البعيد.
أعتقد أن المثقف العربي بعد الخروج من بيروت عام 1982، صار يشعر أن شروط الواقع أقوى من دور الثقافة، وصار أكثر انسحاباً إلى زوايا أكاديمية وإبداعية، وأغلب المثقفين إما أكاديميون في غاية التخصّص أو مبدعون يكتبون القصة والرواية والشعر، وهؤلاء ليسوا مثقفين بالمعنى الشمولي، مهمومين بالشأن العام، ولديهم أدوات فكرية ومنهجية ما يؤهلهم للتفكير بالواقع وتحليله للتعليق عليه، وامتلاك الشجاعة لإبداء رأيهم، خاصة مع سطوة السلطة التي صارت أذكى فلا تسعى إلى توظيفهم، بل إلى تحييدهم.
ليس هناك وطن عربي، بل هناك سجن عربي كبير، ولا يوجد جامعة يمكن أن يمارس فيها المثقف حريته الفكرية بسبب الإكراهات السياسية أو الإكراهات الاجتماعية، وأصبح يميل إلى العزلة، وليس له مساس مباشر بالواقع أو ينتمي إليه حتى يكون له تأثير إيجابي، والإعلام ساهم في خلق وهم ومغالطة تسويق المبدع بوصفه مثقفاً يعلّق على الشأن العام.
من جهة أخرى، لا أعتقد أن المثقف الحقيقي يقتصر همّه على منطقة عربية واحدة، لأن الثقافة العربية ذات حضور أساسي، والتداخل بين المجتمعات العربية كبير، ولا يمكن فصل أي مجتمع عن آخر، إلا إذا كان المثقف ينطلق من منطلق إقليمي أو يتبع جهة، لأن مصلحته من مصلحة فلسطين وهي مصلحة لكل العرب والعالم الثالث والإنسان الحر في أي مكان، ومناصرة فلسطين ليست منّة من أي أحد لفلسطين، بل دفاع عن الوجود العربي والإنساني.
ومنذ أن وحّد صلاح الدين الأيوبي بين بلاد الشام ومصر، أصبحت غاية القوى الاستعمارية عدم تكرار هذه الوحدة، وقد استغلّت أوروبا الأمر من خلال التخلّص من المسألة اليهودية لديها، ليس فقط في إنشاء الكيان الصهيوني للفصل بين آسيا وأفريقيا، ومنع خلق أي مشروع عربي نهضوي، إنما في خلق كيان يدافع عن مصالحهم في المنطقة.
نجح الاستعمار الأوروبي في تفكيك الرموز والبنية الثقافية في مستعمراته، خلافاً لما حدث في العالم العربي حيث كان نجاحه جزئياً، فقد قام المشروع الصهيوني على الإحلال من خلال جريمة تأسيسية كبرى لكنها لم تنجح بشكل مطلق كما حصل في أستراليا وكندا وأستراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة، لأنهم جاؤوا متأخرين زمنياً بفترة طويلة ولم يعد بإمكانهم تحقيق تلك المجرزة بالكامل.
كما كان هناك فارق تكنولوجي كبير بين الشعوب الأصلية والمستعمر في تلك البلدان، وكانت محصورة وجرى الاستفراد بهم، لكنهم عندما جاؤوا إلى فلسطين ورغم تفوقهم بسبب انتماءاتهم إلى دول متفوقة مثل الإمبراطورية النمساوية والروسية وألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية، فإن الفلسيطني لم يكن يعيش في التخلّف والظلمات، واستطاعت الديموغرافيا العربية والإسلامية إعاقة المشروع الصهيوني وحصره خلف الجدار العازل.
* أكاديمي ومترجم فلسطيني