لم يبدأ الإرث الفنّي والثقافي للمنطقة التي أصبح اسمها باكستان عند تقسيم شبه القارّة الهندية عام 1947 وتأسيس دولة ذات سيادة، بل سبقه، بطبيعة الحال، كما في أيّ مكان من العالَم موجود قبل الانقسام والولادة وقبل الاستعمار وبعد الاستقلال.
والآن، ونحن أمام قرابة ثمانية عقود من جمهورية باكستان، فإنّ الحراك الثقافي فيها سيُعبّر عن نفسه في إطار هويات متشابكة ومنفصلة، تعرّضت لانعطافات عنيفة، وصارت تبني ذاتها مع توالي العقود ضمن هوية وطنية تطبعها مخاضات سياسية من داخلها وخارجها.
والمعرض الكبير "منظر: الفن والعمارة من باكستان الأربعينيات إلى اليوم"، الذي يقيمه "متحف مطاحن الفنّ المستقبلي" بالتعاون مع "متحف قطر الوطني" حتى 31 كانون الثاني/ يناير المقبل، يُقدّم عبر 200 عمل فنّي تمثيلات غنية لهذين المكان والزمان الباكستانيَّين، والذي يكتشف من يشاهده التنوّع الأفقي الواسع، المهاجر والمستقر بين خطَّي التقسيم، والمولود باسم باكستان الكبرى غربية والصغرى شرقية، ثم انفصال الثانية لتصبح بنغلادش عام 1971.
وكذلك الحال في تقسيم زمني يصف مرحلةً ما بالتقليدية وأُخرى بالحديثة، ترافقها سرديات ما بعد الاستعمار، والآفاق المحكومة بانقلابات العسكر عدّة مرّات.
مدوّنة الرسّامين الكبار
أكثر من تسعين فنّاناً ومعمارياً، إضافةً إلى مواد إعلامية معبّرة عن الأحوال السياسية والاجتماعية، من جيل رحل مبكراً عقب تأسيس الدولة وأجيال لاحقة، ما زالت تمارس عملها في البلاد أو المَهاجر، كلّها تجتمع في اثني عشر قسماً.
يبدأ أيُّ سرد في مدوّنة الرسّامين الكبار حتماً بعبد الرحمن جغتائي (1897 - 1975) وأستاذ الله بخش (1895 - 1978) وزين العابدين (1914 - 1976)، الذين رسّخوا مكانتهم كأسماء منخرطة في التقاليد التاريخية والفنّية الغنية لمنطقة جنوب آسيا، بما يعني أنّ جزءاً كبيراً من تراثهم هو ما قبل الدولة، وحكماً تحت الاستعمار.
تظهر في أعمال زين العابدين الحياة اليومية في الأرياف غالباً. إلّا أنّ ما عزّز موقعه كأحد أكثر الروّاد تأثيراً على الفنّ الحديث في المنطقة كان سلسلة أعمال مؤثّرة ومبسّطة سلّطت الضوء على محنة ومعاناة الملايين خلال مجاعة البنغال، وهي التي نعاين بعضها مرسومةً بالحبر الصيني على الورق.
أمّا الأسلوب الفنّي الفريد لعبد الرحمن جغتائي فهو متجذر في القيم الجمالية الإسلامية، وفنّ المنمنمات المغولية والفارسية، بالإضافة إلى تفاعله الوثيق مع أعمال عدد من شعراء وكتّاب اللغة الأردية.
بينما تأثّرت أعمال أستاذ الله بخش بالأسلوب الأكاديمي الغربي المتجسّد بفنّ رسم اللوحات الذي حاز على رعاية البريطانيّين خلال فترة الاستعمار.
حداثة فنّ الخطّ
يضع مؤرّخو الفنّ لحظة الاستقلال علامة فارقة بين الشاعرية الرومانسية السابقة وأنماط التعبير التي تخلقها اللحظة الراهنة. وكان للاضطراب السياسي بالطبع تأثير كبير على التعبير عن النفس وعن الهوية والاستقلال والتمثيل.
في المرحلة التي توسَم عادةً بما بعد الاستعمار، والتي تعبّر عن ذاتها بقوّة الدفع الاستقلالية، كان التجريد وفنّ الخطّ يؤطّران سردية الحداثة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
يعرض لنا معرض "منظر" نماذج من أعمال الفنّان صادقين (1930 - 1987)؛ أحد كبار ممثّلي حداثة فنّ الخطّ، وفي أعماله نشهد حالة من التصادم القوي بين الأشكال المتطاولة والتجريدية والتعبيرية القائمة على مساحات مشطّبة تنطوي على حركة وتحمل طبقات عدّة.
غالباً ما تستحضر الأعمال الكثيرة لصادقين أشعار غالب (1797 - 1869) ومحمد إقبال (1877 - 1938) وفيض أحمد فيض (1911 - 1984)، كما تشمل عدّة جداريات كبيرة الحجم في فضاءات عامّة، ولِفيض أحمد الشاعر اليساري من لاهور بورتريه بالحبر رسمه الفنّان الهندي الشهير مقبول فدا حسين (1915 - 2011) ضمن محتويات المعرض، إذ جمعت الاثنين صداقة متينة سبقت التقسيم بسنوات.
وقد تجسّدت حداثة فنّ الخطّ هذه ضمن أعمال إسماعيل غلجي (1926 -2007) الكبيرة والانفعالية واللوحات التجريدية لأنور جلال شمزا (1928 - 1985) التي تُزاوج بين الخطّ العربي وأنماط التزيين التقليدية للسجّاد ولوحات أحمد برويز (1926 - 1979) ذات المنحى الشاعري بين اللون والمساحة والشكل.
جدل العمارة
والعمارة التي تتقاسم أرجاء المعرض كذلك عكست جدلاً فنياً، بل تمترساً لدى الفرقاء وراء قناعات الدفاع عن الهوية المحلّية أو قبول التأثيرات الخارجية، أو الاختيار الحرّ استجابةً لأمثولة فتح النوافذ للرياح دون السماح باقتلاع الجذور.
فبعد أقل من أربعين سنة من الاستقلال وعمليات التقسيم المتلاحقة التي شهدتها شبه القارّة الهندية، واجهت دولة باكستان الجديدة تحدّيات على مستوى الإغاثة الإنسانية نتجت عن النزوح الجماعي.
وفي هذا الخضمّ، يمكن مباشرة توقُّع شيوع النمط العمراني الوظيفي، ثمّ سنجد من يُشكّك في جدواه، فرغم إتاحته المجال أمام تشييد بنىً تحتية متعدّدة في البلاد، إلّا أنّ مدناً مثل كراتشي ولاهور أخذت في التوسّع بشكل كبير جدّاً، وهو ما أظهر أنّ استراتيجيات التطوير غير كافية للتعامل مع هذا النموّ الديمغرافي.
المعماريون، مثل حبيب فدا علي (1935 - 2017) الذي شكّك بالمقاربة الإقليمية الضيّقة التي تنطوي على تراجع في ما يتعلّق بالهوية، وعارف حسن (1943) استنكر كافّة المشاريع التي كُلّف بها القطاع الخاص أواسط الثمانينيات وكرّس نفسه للنشاط السياسي والمساعدة في إطلاق برامج تشاركية لإعادة تأهيل المساكن المتداعية. وفي لاهور، ابتعد كامل خان ممتاز (1939) عن أسلوبه الحداثي وتوجّه نحو سبر وإعادة اكتشاف تقنيات البناء التقليدية التي تسبق الحقبة الاستعمارية.
سنلاحظ دائماً المكان الباكستاني الذي تتشكّل على مسرحه تواريخ السياسة والفنّ، والهدم والبناء، ومواجهة المصائر ضدّ الخارج وضدّ الداخل، غير أنّ الذين يعيشون هنا لم يكونوا كذلك قبل هذا التاريخ السياسي المفصلي، ألا وهو الاستقلال، وربّما لم يعودوا باكستانيّين في ما بعد، إلّا أنّهم صنعوا الجمال مكتوباً ومرسوماً بالانتماء إلى مجتمعات حواضر وأرياف عابرة للتصنيف.
فهذا الرسّام زين العابدين حين رسم المجاعة في البنغال، كان ذلك عام 1943، أي حين كانت شبه القارّة كلّها تحت الاستعمار البريطاني، والرسّام مرتجى بصير (1932 - 2020) حين رسم لوحة "الغجري" عام 1954 كان مواطناً في باكستان الشرقية، التي ستصبح بنغلادش.
تأثيراتٌ خطيرة
يعتبر القيّمون على المعرض أنّ العقد ما بين 1978 و1988 ترك تأثيراً خطيراً على مجال الفنّ والثقافة أكثر من أيّ فترة سابقة، وهو العقد الذي وقعت فيه باكستان تحت حُكم الجنرال محمد ضياء الحق، إذ شهدت فترة حكمه تطبيق سياسات رقابة صارمة توجب على كافّة الفاعلين الثقافيّين في البلاد الالتزام بها، وهو ما يشمل كافّة أشكال الفنون والموسيقى والرقص والمسرح والسينما.
تُظهر الصور الفوتوغرافية منتدى الحراك النسوي في مسيرات احتجاجية في لاهور ضدّ التمييز الذي انطوت عليه قوانين الحدود وقانون الأدلّة، والتي تعرّضت لقمع قوات الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات.
ولا يزال إرث هذا المنتدى حاضراً في "مسيرة أورات" السنوية التي تُنظَّم في أرجاء باكستان إلى الآن وتشهد انخراط الفنّانين والفاعلين الثقافيّين. ورغم أنّ نظام الجنرال محمد ضياء الحق انتهى برحيله عام 1988، إلّا أنّ تأثير السياسات التي طبّقها لا يزال حاضراً في باكستان إلى يومنا الحالي، بحيث تعكس أعمال فنّانين مثل أنور سعيد (1955) وسليمة هاشمي (1942) وسلمان تور (1983) وقدوس ميرزا (1961) وفريدة بتول (1970) وغيرهم المشقّة المتعلّقة بكينونة الإنسان اليومية والمصاعب التي تنطوي عليها سياسات الهوية.
وفي أحد الأجنحة التي تراهن في كلّ وقت على اختلافها العميق عن تلك الأجواء الفنّية العامية الحضرية وقد ذاعت في تسعينيات القرن العشرين، ووقف وراءها فنّانون ومعماريون من مدرسة وادي السند، ومنها برز "بوب كراتشي". نتحدّث هنا عن المدينة الساحلية المزدحمة والعاصمة المالية للبلاد، والتي تشكّلت كتلتها الكبرى من المهاجرين أو المهجّرين وسكّانها الأصليّين، وما بينهما من مكاسبات على النفوذ والتنميطات العنيفة أحياناً ثمّ التعايش الذي لا بدّ منه.
ثمّة لغة فنية جديدة يرصدها المعرض تستقصي الثقافة البصرية والمحلّية الحضرية اليومية. في هذا الإطار، أخذ الشريكان افتخار دادي (1961) وإليزابيث دادي (1957) وديفيد السوورث (1957) ودرية كازي (1955) يسبرون الجوانب البصرية المصوّرة السينمائية والعناصر الجمالية في الأسواق حيث يرسم ويلوّن الحرفيون الشاحنات وإعلانات أفلام السينما، ويوظّفون في ذلك المعادن والخشب وأضواء النيون الساطعة، بحيث تتجاور ملصقات دينية وسياسية على الجدران وتنطوي الأمكنة على توليفة عبثية من الأشياء الغريبة.
وبذلك أتت أعمال هؤلاء الفنّانين لا للتشكيك بهرمية الفنّ الراقي والفنّ الوضيع، بل لتكسر الحواجز بينهما، وتهدم نظام الترتيب المفروض بين الفنّ والحِرَف والثقافة الشعبية والفولكلورية.