يوميّات الحرب في غزّة (11)

20 نوفمبر 2023
طفل فلسطيني في حالة هلع بعد غارة إسرائيلية في خان يونس جنوب قطاع غزة (18/11/2023الأناضول)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(17 نوفمبر) 
سرتُ في شوارع المخيّم. لا أعرف، أحاول أن أحتفظ بأكبر قدرٍ منها في ذاكرتي، قبل أن تغيّر الحرب معالمها أكثر، أم يجرفني حنين لكل شيءٍ ذهب منها. التفكير فيما ذهب ومحاولة الاحتفاظ بما تبقّى. تتضارب تلك المشاعر، وأنا أتعثر بالحجارة الكبيرة التي تناثرت في كل اتجاه من القصف المتكرّر والهدم المتواصل للبيوت والأماكن. في كل اتّجاه أنظر إليه، ثمّة جزءٌ من المخيّم مهدوم، جزء من ذاكرة من كانوا هناك، وجزء من حيوات من مضوا. الطرقات التي أعرفها وأعرف شكلها قبل عقود، والبيوت التي أعرف من يسكنها ومن كان يسكنها قبل سنوات وسنوات، كل شيء يفيض بالحزن والألم، وجدران المخيّم تنزف وهي تتساقط، وتمحي عنها ذكريات من عاشوا في داخلها. وقفتُ على ركام البيوت التي هدمتها الغارة ليلة أمس، حين تم هدم بيوت عائلات أبو القمصان وحجازي وأبو داير. المئات من شباب المخيم ورجاله يقفون فوق الركام. بعض البيوت ما زالت في طور السقوط كأنها معلّقة من قمّة جبل ضخم تهوي ولا تصل إلى القاع. شابٌّ يلملم كتب أطفاله المدرسية، وهو يتمنّى لو أنه كان معهم لحظة القصف ومات معهم. ما زالت قطع الأثاث تحمل بقايا الأحلام على المخدّات التي تشبعت بالدماء والشراشف التي ما زالت فراشات الأمنيات تحلق فوق الزهرات التي تزيّنها. مشاهد باتت مألوفة وباتت يومية وصار التوقّف عندها أمراً روتينياً ومعتاداً. 
نمتُ الليلة الماضية في مركز الإيواء، حيث تبيت أختي حليمة وعائلتها. كنت أنوي المبيت في منزل أختي أسماء المقابلة له، لكنني ذهبت للسهر عند حليمة وإسماعيل زوجها، وأخذنا الوقت. ومع اشتداد القصف، بات متعذّراً الخروج في الليل، فأي حركةٍ تثير شهية الطيار أو مراقبة الطائرة الزنّانة لمزيدٍ من القتل. كانت المسافة صغيرةً ويمكن قطعها في دقيقة، لكنها الدقيقة التي قد تكلف المرء حياته، والتي قد تكون فاصلة بين الموت والحياة. لذلك بدت المجازفة أمراً أحمق ولا حاجة له. هززتُ رأسي، وقلت لمحمد نبيت الليلة هنا. المدرسة التي تحمل اسم الشهيدة الأولى بعد احتلال العام 1967 كانت قبل ذلك تحمل اسم قرية الفالوجا التي حوصر فيها جمال عبد الناصر، لكن ياسر عرفات أراد أن يكرّم المرأة المناضلة بتخليد اسمها على أهم مدرسة ثانوية في مخيّمات غزّة فيما بقيت المنطقة كلها تحمل اسم حصار عبد الناصر فظلّت منطقة الفالوجا. ومع ذلك، ما زلنا نقول عنها مدرسة الفالوجا. تقيم في مدرسة شادية أبو غزالة أختي حليمة، في منطقة تشبه الخيمة الواسعة التي أحاطها زوجها إسماعيل بالقماش، وصنع داخلها بيته الجديد وعالمه الذي لا يعرف كم سيضطرّ للمكوث فيه. جلسنا هناك على كراسي أخذها إسماعيل من الفصول الدراسية، ليخيط بتوتّر تفاصيل حياته الجديدة. كراسي وشيء يشبه الطاولة وشيء يشبه المطبخ وساحة صغيرة تُفضي إلى مكان النوم المفروش بالفرشات والبطّانيات. المهم ألا ينام الواحدُ منا على الأرض. جلسنا على الكراسي، وأخذنا نتبادل الحديث والذكريات. إسماعيل مثقفٌ واسع في الشأن الإسرائيلي، فهو لا يسمع الأخبار إلا باللغة العبرية من القنوات الإسرائيلية. وفيما مضى عمل مساعداً لمحام كان يترافع عن قضايا العمّال في قطاع غزّة. وعليه، هو ضليع بشكل ملفت بكل ما له علاقة بدولة الاحتلال. يبدو الجلوس معه في مثل هذه الأوقات مفيداً وهو يستمع للأخبار والتحليلات، ويسمع خطب المسؤولين الإسرائيليين وتصريحاتهم، ويترجمها بشكل فوري. كان يضع السمّاعة في أذنه يستمع، ويرمينا بالأخبار القاسية والمؤلمة عن استمرار الحرب، وعن تصريح بايدن عن استمرارها ودعمه إسرائيل. ابتسم وهو يقول في مجلس الأمن يطالبون بهدنة إنسانية ووضع السماعة في أذني وهو يقول ها هم يتحدثون بالإنكليزية. كانت تلك ممثلة الولايات المتحدة تتحدّث بوقاحة عن الفلسطينيين وعن الوضع والحرب التي تشكّل دفاعاً عن النفس بالنسبة لطفل الغرب المدلّل.

أقام النازحون إلى المدرسة فرناً من الطين والقش، وضعوا في منتصفه بلاطة يخبزون عليها

أحضرت حليمة صحناً بالرز والحليب، تناولتُه. قالت إن الأولاد لم يأكلوا أي حلوياتٍ منذ بداية الحرب، فكّرت أن الرزّ والحليب هو الشيء الوحيد الذي يمكن صناعته في هذه الظروف. أخبرتْني عن بيتها الذي تدمّر بشكل شبه كامل في الغارات الأخيرة، وعن الزيتون الذي خزّنت منه القليل قبل الحرب بيومين، وتركت كل شيء في المنزل، ليلتهمه الركام والدمار. أخذ ياسر يلهو مع أبناء عمّته يلعبون الورق. اللعبة التي تجد حليمة متعة في تزجية الوقت فيها، هي وبناتها وأولادها، وهم يمضون الساعات الطويلة في انتظار الليل أو سطوع ضوء النهار. واصلت حديثي مع إسماعيل عن مستقبل الحرب، وعن آمال انتهائها، وعن فرص الحياة بعد ذلك. بالنسبة له، وجود ابنه محمد في الجزائر للدراسة ومغادرته غزّة قبل أيام من الحرب كان نعمة من الله. صحيحٌ أن الولد يظلّ قلقاً عليهم، ولكن أحسن من أن يظلّوا قلقين عليه. على الأقل الآن يواصل دراسته ويستغل وقته، بدلاً من أن يكون مشرّداً معهم.
وضع إسماعيل جردلاً أبيض في زاويةٍ قرب مدخل الخيمة، وقال إن هذا هو الحمام في الليل. وضع محارم وزجاجة ماء على كرسي قريب. خلال النهار، يصطفّون في طابور طويل في انتظار دورهم لدخول الحمام. أما في الليل فيستخدمون الجردل مؤقّتاً للأشياء الخفيفة. طوال الليل، حاولتُ أن أمنع نفسي من استخدام الجردل، وتماسكتُ فترة طويلة، لكنني وعند الرابعة فجراً لم أجد مفرّاً من القيام والتوجّه إليه. كنّا قد صحونا قبل ذلك عند الثانية والنصف صباحاً، حين سقطت بعض الشظايا في ساحة المدرسة، ووقع حجرٌ فوق السطح الحديدي الضخم للساحة التي أقام إسماعيل والآخرون خيامهم فيها. صرَخت امرأة. قُمنا مفزوعين على وقْع الحجر وعلى صوتها. نادى إسماعيل: هل تأذى أحد. كلكم بخير. جاء الصوت من بعيد: كلّنا بخير، وأنتم؟ وحاولنا أن نعود إلى النوم. لا يمكن لي أن أعدّ كم دقيقة نمت، إذ بالكاد نمتُ دقائق. كنتُ أصحو بين فينة وأخرى على صوت القصف وصوت الصواريخ والقذائف تتطاير فوقنا. كنّا ننام في ساحة معركة حقيقية، فالمنطقة تقع غرب المخيّم، وهي مجاورة لموضع الدبابات الإسرائيلية في منطقة الصفطاوي، حيث شقتي التي لا أعرف مصيرها. لا أعرف أصلاً إذا نمت أم لا. لذلك عدت إلى التمدّد على الفرشة، بعد أن تيقّنا أن كل شيء تمام، وأن أحداً لم يُصب، وحاولت أن أغفو مرّة أخرى. المحاولات نفسها التي أقوم بها من دون أن أنجح. 
في الصباح، ستكون حليمة قد عجنت الطحين، وقطّعته إلى أقراص، ورقّته على شكل أرغفة مستديرة، وبقي عليها أن تُشعل الفرن حتى تخبزه. أقام النازحون إلى المدرسة فرناً من الطين والقش، وضعوا في منتصفه بلاطة يخبزون عليها. الفرن بحاجة لمن يُشعله ويقوم بتحميته فترة طويلة قبل أن يبدأ الآخرون عملية الخبْز. ساعدنا حليمة في تكسير بعض الخشب الذي حمله ابنها وسار معها حتى يساعدها بإشعال الفرن. قالت: انتظروا لتأكلوا الخبز الطازج. .. قلت: ربما في المساء. ... ضحكت. وأنا أقول لكنني سأحرص على ألا أتأخّر حتى لا أضطرّ للمبيت في الخيمة أيضاً.

الصورة
جباليا
فرق من الدفاع المدني ومدنيون يحاولون إنقاذ عالقين تحت الأنقاض بعد قصف إسرائيلي على مخيّم جباليا شمال غزّة (14/11/2023/الأناضول)

الخيام متراصّة، وكنّا ونحن نجلس نتسامر نسمع كل أصوات الجيران في الاتجاهات الأربعة، وهم يتسامرون مثلنا، ونسمع قصصهم ومشكلاتهم العائلية. وفي مرّات، قد يعقّب إسماعيل على ما يقولون، كأنه يجلس معهم. وقد يسأله أحدهم عن شيء في الأخبار يترجمه له من العبرية إلى العربية. ... كانت تلك الخيام مقطعاً مبسّطاً عن المخيم في بدايات تكوينه، قبل أن تتحوّل الخيام القماشية إلى بيوت من طوب، وقبل أن يتحوّل المؤقت إلى مؤقت مستمر. كنتُ أنظر في الخيمة، وأتخيّل لو تحوّلت هذه إلي بيت دائم إلى مستقرٍّ لا انتقال منه. سألتُ إسماعيل كيف سيعيد بناء البيت بعد الحرب. قال: بس تخلص الحرب. قلت أنت محظوظ إن لك سطحاً تجلس وتنام تحته. ... وكنت أشير إلى حقيقة أن ما تبقى من بيته سطح البيت. قال: لكن لا يوجد مطبخ ولا حمّام. ... قلت: بالتأكيد، ستجد حمّاماً أفضل من هذا الجردل. ... في الصباح، سأكتشف أن إسماعيل نام هو وولداه على بطّانياتٍ رقيقة، حيث أعطونا فرشاتهم كي ننام عليها. سرتُ بين ممرّات القماش والشوارع والأزقّة الجديدة، وأنا أنظر إلى اليوم الجديد الذي ينهض فيه المخيّم الجديد في مركز الإيواء من النوم غير مصدّق أنهم نجوا، وأن الليلة "عدّت" على خير، وأنهم أحياء يُرزَقون. 
كذلك في شوارع المخيّم، الكلّ يسير إلى شؤون حياته أيضاً، ينعم باليوم الجديد الذي وهبته إياه الحرب. ومع ذلك، تئنّ طرقات المخيم وحاراته وتتوجّع، وهي تفقد الكثير منها كل يوم وكل ساعة. ينتشر الخراب في كل مكان، والدمار يعمّ كل الحارات، وما تراه الآن قد لا تراه غداً، وما هو قائم الآن قد لا يكون قائماً بعد ساعة. 
أسير في المخيّم، أمشي في الدروب التي عشتُ فيها وركضت فيها وتعلمت فيها الحياة. في المكان الذي أقف عنده، قريبا من ركام البيوت التي تم قصفها الليلة الماضية، أُصبتُ في الانتفاضة الأولى، حين باغتني الجندي برصاصة أصابت كبدي. كنتُ ألبس القميص البرتقالي الذي ظلت أمي تحاول تمزيقه كلما رأته وأمنعها، لأنه فأل شؤم بالنسبة لها. وكنتُ أقف خلف زاوية منزل محلات أبو قمر للتلفزيونات. كان الجنود يقفون أمام المحوّل الكهربائي، وكانوا يحتمون بجيباتهم العسكرية، وأنا بين فترةٍ وأخرى أخرجُ من خلف الزاوية التي شكلت لي ستاراً وأقذفهم بالحجارة. كنّا مجموعة كبيرة من الشباب. وكان شهر تموز حارّاً وقاسياً. فجأةً، شعرت بوخز أسفل كتفي الأيمن، وضعت يديّ لأرى الدماء تنز من مكان دخول الرصاصة "الدمدم" التي ستتفتّت في كبدي بعد ذلك. حينها، أدرك الجنود أنهم أصابوا أحدَنا فركضوا خلفنا وهم يطلقون النار. بقيتُ أركضُ نصف ساعة بين أزقّة المخيّم وشوارعه، حتى وجدت سيارة حملتني إلى مستشفى المعمداني، وكان أخي نعيم برفقتي يضغط على الجرح، لا يريد لي أن أموت. أعرف هذه الشوارع وتلك الأزقّة جيداً، كنتُ كل يوم أذهب منها إلى المدرسة، أقطع المسافة بين بيتنا وشارع المدارس قرب منطقة السكّة بين الأزقّة الضيقة التي تشكّل متاهةً لا يعرف السير فيها إلا من خطا خطواته الأولى بين الرمال التي كانت تغطّيها، أو صاح صيحاته الأولى قرب عتبات بيوتها التي تُشعبط عليها أشجار الياسمين، أو تظلّلها قوارير النعنع والريحان.

لا نريد الشتاء. لا نريد أن نغرق حين تفد العواصف والأمطار والزوابع إلى غرف نومنا من الشبابيك المهشّمة

بين فترة وأخرى، أقف أتبادل الحديث مع أحد أصدقاء الطفولة أو الشباب. كان ثمّة حسرة بادية على محيّا كلّ منا، ونحن نرى المخيّم يذهب ويختفي تدريجياً، كأننا نخاف على ذاكرتنا أن تذهب معه. ومع ذلك، كنا نعد بعضنا بصباحاتٍ أجمل وغد أكثر إشراقاً. المياه الآسنة تملأ الطرقات، ورائحة الشتاء تقترب، ونحن نقول في أنفسنا لو أن الله يؤجّل قدوم الشتاء قليلاً. لا نحتاج الشتاء هذا العام. لا أرض لنزرَعها، ومحاصيلنا تم اقتلاعها، وحقولنا تم تدميرها. حتى الزيتون، لم نتمكّن من قطفه. لذا لن يكون لدينا زيتون ولا زيت مونة هذا العام. لا نريد الشتاء. لا نريد أن نغرق حين تفد العواصف والأمطار والزوابع إلى غرف نومنا من الشبابيك المهشّمة. ولا نريد أن نبتلّ ولا نجد ما ننشف به ملابسنا من كهرباء أو نار ولا نريد أن يلسعنا البرد القارس فلا نعرف كيف نتدفّأ. لا نريد الشتاء هذا الموسم. يمكن شطبُه من فصول السنة، مرّة واحدة فقط هذا العام، ويمكن أن يتم "فرضه" علينا مرّتين في العام المقبل. فقط نريد أن يتوقّف هذا الفصل المحمّل بالماء حتى انتهاء الحرب. اقترح ابني ياسر أن نقيم حاجزا ونوقِف الشتاء ونمنعه من المرور إلى غزّة. ... والحواجز يقيمها الاحتلال، ولا نملك من أمرنا إلا أن ندعو الله. 
القليل من المطر، يا الله. القليل من البرد، يا الله. القليل من البلل، يا الله. لسنا في حاجةٍ لمزيدٍ من الاختبارات. حتى لو فشلنا، لسنا إلا خطّائين نتوبُ إذ ندرك معصيَتنا. القليل من هذا الألم الذي قد يحمله الشتاء معه، يا ربّ. في الماضي، كان المخيّم يغرق من المطر بشكل كامل، ويتحوّل إلى بركة واسعة، خصوصا قاع المخيم، وهي المنطقة التي نسكن فيها في بلوكات 6 و7 و10 و3 . ... تبدأ روايتي "حكاية ليلة سامر" بتلك الفيضانات التي كانت تعمّ المخيم، وتُغرق بيوته وسكّانه، ويتعذّر التنقل فيه، إلا باستخدام كل شيءٍ يطفو فوق الماء، وكان بعضهم يستخدمون قوارب صغيرة. في مفتتح الرواية، يقف أربعةُ جيران بعد أن تهدأ العاصفة، يتفقّدون زقاقهم الضيق، فيما يجول في داخل كل واحد منهم مونولوغ طويل، يروي قصة حياته قبل هدوء العاصفة. يقول الراوي في بداية الرواية: هدأت العاصفة. خرجْنا نتفقّد أنفسنا بعد هذه الليلة العصيبة. 
كنتُ أذهبُ إلى المدرسة لابساً جزمة طويلة، تصل إلى حدّ الركبة. ومع ذلك، كان عمق الماء يزيد ويدخل إلى قدميّ وساقيّ، وأعاني كما كل أترابي من أوجاع في أقدامنا طوال الصيف. الآن، رغم أن الوضع أفضل بكثير، بفضل رصف طرقات المخيم وشبكة المجاري التي انتشرت في جوف الأرض، إلا أنّ أيّ زخّة مطر، مع القصف المتكرّر واستهداف البنية التحتية خلال الأربعين يوماً الماضية، ستُغرق المخيّم، وتحوّل طرقاته إلى أنهارٍ جارية. التفكير في كارثة الشتاء المقبل يجعل التفكير في استمرار الحرب ألماً مضاعفاً، فبالنسبة لمن يعيشون في مراكز الإيواء، سيُغرقهم المطر وهم نيام، وسيحمل فرشاتهم فوق ماء مضطربٍ قد يقذف بعضَهم إلى الشارع.

الصورة
طفلة
طفلة أمام منزل دمرته غارة إسرائيلية في رفح جنوبي قطاع غزّة (19/11/2023/فرانس برس)

الآن، وفيما أفكّر بذلك كله، ويذهب بي القلم من طرقات المخيّم التي كنتُ أسير فيها عما قليل إلى عالم الطفولة، أفزّ عن الكرسي أمام شدّة القصف الذي استهدف منزلاً يبعد مائة متر أو أقل عن منزل أختي عيشة، حين وصلت إلى الراحة عندها. سمعتُ صوت الصاروخ، ثم دوّى الانفجار، ثم دخلت من النافذة الغبار والشظايا، وقفزتُ أحاول أن أحتمي بالخزانة، خوفاً من تساقط مزيد من الشظايا من النافذة، وخوفاً من صاروخٍ آخر يتبع الأول ويكون أشدّ فتكاً. صراخ وعويل وأطفال هلعون. بدأنا نحاول اكتشاف موضع القصف. كان الشارع الصغير مليئاً بالغبار، وكانت سحابة كبيرة منه تحوم قرب البناية الطويلة على طرف الشارع. بجوار البناية، كان بيت راقداً بحزنٍ مثلنا، بعد أن مات، وربما مات من فيه ونحن نبحلقُ في خيالات من بقوا في جوف غيمة الغبار.

(18 نوفمبر) 
آلاف الناس يسيرون في الشوارع من غير هُدى. لا يعرفون أين سيذهبون. مصدومون من هوْل النجاة التي فازوا بها بعد تلك الليلة القاسية، حيث كانت القذائف تتساقط عليهم من كل صوب. كانوا زرافاتٍ زرافاتٍ ييمّمون صوب قلب المخيّم من الأطراف الغربية والشمالية، يحملون ملابسهم وبعض حاجيّاتهم، والخوفُ يسربلهم ويعرقل خطوهم الحثيث صوب النجاة المؤقّتة. يحمل الرجل جرّة الغاز، وابنُه يحمل عين اللهب الحديدية، فيما المرأة تجرّ الطفليْن، وهي تقول إنها بعد قليل ستُحضر لهما الفطور. والمرأة العجوز ترفع، بوهن، رجلها عن الطريق الملطّخ بماء المجاري، وهي تستعيد سني عمرها، وتتذكّر أن هذه من الرحلات الأخيرة التي ستقوم بها فتُتمتم "اللهمّ لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطف به". رميتُ عليها بالتحية، وأنا أقول "الله بعين يا حجّة". واصلت تمتمتها تحاكم كل ذلك الماضي وهي عاجزة عن إبصار المستقبل. الطرقات الوافدة إلى المخيّم من طرفيْه الغربي والشمالي مكتظّة بالفارّين من الموت يريدون أن يرتاحوا ربما قليلاً قبل أن يواصلوا بحثهم عن النجاة الدائمة. محظوظون أولئك الذين لديهم دابّة أو سيّارة أو عربة تكتوك يحملون عليها أمتعتهم، لأن هذا سيوفر عليهم الكثير من الألم والتعب. أما الغالبية العظمى فيعدّون الخطو ويغذّونه حتى يبتعدوا أكبر مسافة ممكنة عن موضع القذائف العمياء التي تتساقط على طول طريق الألم هذا. 
يحمل الآلاف تعب الليلة الماضية ووجعها، يهربون من الموت الذي تحمله معها القذائف والصواريخ، وهي تحصد أرواحهم، وفيما يحملون الألم مع أمتعتهم يتبادلون الأخبار المؤلمة عن الحيوات التي أزهقت تحت الركام، أو تلك التي قطفها القنّاص بساديةٍ ووحشيةٍ، تتساقط الدموع على الخدود من العيون الحمراء مثل حبّات البندورة، لقلة النوم ولكثرة الخوف ولشدّة التعب. حكاياتٌ سريعةٌ يتقاذفونها وسط ضوضاء الرحيل المفجع، فيما ينظرون يميناً وشمالاً بهوس، خوفاً من أن تباغتهم قذيفة فتسقط عليهم. أصوات القذائف وفحيح البوارج وهدير الطائرات تحملهم على مزيدٍ من القلق في طريقٍ كسرته الانفجارات، وأخرجت مياه مجاريه مع مياهه الجوفية من عمق وصولها. الطريق الذي يعذّب كل من سار فيه، وهم معذّبون قبل خروجهم القهري.

تساقطت القذائف على المدرسة، وستقتل قرابة مئتين من النازحين فيها

لا تُبصر في المسافة من دوّار الشهداء الستة حتى آخر شارع الفاخورة شمالاً إلا الدمار والهدم. كل البنايات وكل البيوت وكل المحال مكسّرة، تحوّلت إلى أكوام من الخراب والحجارة والحديد. لا شيء بقي في الشارع إلا ذكريات تتنفّسها الأبنية، وهي تحتضر وتلتقط آخر أنفاسها، قبل أن يدوسها الزمن والمجنزرات والجرّافات، وتحملها بعيداً عن مكانها. الميدان الذي شهد في الانتفاضة الأولى استشهاد ستّة من قادة العمل الفدائي ها هو يشهد مزيدا من الجراح والآلام، وها هو ينزف مرّة تلو أخرى، في استذكار تراجيدي لوقوف البطل على منصّة النار. أقف قرب النصب التذكاري أستذكر أول يوم لي في سجن النقب (أنصار 3) حين كان أحمد أبو ابطحيان الذي سأعرفه بأبو سالم مسؤولاً عن السجناء، وممثّلهم أمام إدارة المعتقل يسألني عن مكان سكناي. كنّا من مخيم واحد، وكنتُ قد بلغت الثامنة عشرة والنصف، وكان يوليني عناية خاصّة. في رمضان، وبناء على تشجيعه، كتبتُ أول قصّة لي، وعلّقناها على ورق مقوّى على جدار الخيمة ضمن النشاطات الرمضانية. قال لي: "إذا بتحبّ الكتابة اكتب". وكتبت في عشرة أيام كل يوم قصّة، وكنّا نعلقها على جدار الخيمة. وكانت تلك أولى مجموعاتي التي لم تُنشر حتى اللحظة. كنتُ أفكّر في هذا الشاب طويل القامة الأسمر النحيف الذي أخذ الوطن وتاريخ البلاد على محمل الجدّ، حتى أخذتْه أمانيه، واستشهد دفاعاً عنها. 
كان أول كتابٍ كتبتُه عن سيرة هؤلاء الشهداء الستّة، وكان يحمل العنوان ذاته "الشهداء الستة" قبل أن تصدُر روايتي الأولى. كان هذا نوعاً من الوفاء المستحقّ والتكريم الواجب، وكان يتضمّن حكايات الانتفاضة ووهج الشباب وعنفوانهم. صورهم الست بوجوههم حين كانوا في الثلاثينيات في ذلك الوقت تنظر إلى الوجوه العابرة ظلام النزوح برعبٍ وبخوف. وتشير بقلقٍ إلى العالم الذي كان عليهم أن يتركُوه في استعادةٍ منقوصةٍ لتاريخٍ غير ناجز. محطة البنزين على الجهة اليسرى للشارع مهشّمة، والبيوتُ المكوّن كل منها من طابق إلى أربعة تساقطت مثل علبة صغيرة، والطريق يغرق بالماء الآسن، ومحلّ بيع الأدوات الكهربائية والمنزلية الضخم "القمّة" يتكوّر على ما فيه بحزن، ومدرسة الفاخورة التي تؤوي النازحين تمتلئ بالخوف والرعب الذي يحسّ به كل من فيه.
بعد ساعاتٍ من تلك اللحظة، وعند الثانية بعد الظهر، تساقطت القذائف على المدرسة، وستقتل قرابة مئتين من النازحين فيها، أولئك الذين كانوا في الصباح ينظرون بأسىً إلى كلّ العابرين في درب النزوح، غير مصدّقين أن المدرسة التي كانت قبل أسبوعين وثلاثة في وسط المدّ السكاني باتت الآن على الأطراف. استهدفت قذائف الدبّابات المدرسة ومزّقت أجساد من فيها، وأحالت أطفالها عصافير في الجنة، وخطفت البسمة عن كل وجهٍ كان يظنّ أن الحياة قد تصفو له في المستقبل. مات كثيرون وجُرح كثيرون، وظلّت مدرسة الفاخورة تبكي كل من كانوا فيها، تبكي أولئك الذين صنعوا حياةً رغم الحرب، أشعلوا النار وصنعوا خبزهم وطهوا طعامهم وغسلوا غسيلهم ونشروه على الأحبال يستجدي شمس تشرين أن تتوهّج أكثر، أولئك الذين أوجدوا طقوس حياةٍ في المباني التي لا ينتظم فيها طلابٌ للدراسة، وسهروا في الليل، وتبادلوا القصص والحكايات والوعود بعد انتهاء الحرب، أولئك الذين جعلوا للمكان روحاً قبل أن تأخُذ الحربُ أرواحهم. ها هي المدرسة تستعيد ذكريات كل المذابح التي مرّت عليها، والتي كانت مسرحاً لوقوعها، وهي تودّع من كان فيها.

الصورة
دخان
دخان يتصاعد فوق المباني خلال غارة إسرائيلية على قطاع غزّة (19/11/2023/فرانس برس)

القصف الإسرائيلي المستمرّ على المخيّم وأطرافه من أجل الضغط على السكّان لتركه والخروج إلى شارع صلاح الدين، والتوجّه صوب الوادي نحو الجنوب. هدف القصف الجنوني الليلة إلى إحداث كل هذا الرعب، من أجل إفراغ المخيّم الذي ظلّ متماسكاً، وظلّ موجوداً، وظلّ مأهولاً بالسكّان، رغم كل تحذيرات الجيش وقصفه وأحزمته الناريّة، كأنه يقول: "لن أرحل فأنا مخيّم في نهاية المطاف وسأظلّ باقياً". لم يتوقّف القصف طول الليلة واليوم من أجل تحويل حياة الناس إلى جحيم، ودفع من فيه للخروج منه. مذبحةٌ تلو أخرى ورعبٌ تلو آخر، والناس لا تعرف ماذا تفعل، فلا أحد يقول لها شيئاً، ولا أحد يُخاطبها إلا منشورات الجيش التي تتوعّد وتُنذر. ليلة أمس أيضاً، تم استهداف مدرسة تل الزعتر بين بيت لاهيا والمخيّم، واستشهد العشرات، وهم نيامٌ يحاولون التقاط ما تبقّى من أحلامهم حتى يحملوه معهم إلى بقية النهار. تواصل القذائف الآن بثّ الرعب والهلع، والناس تواصل السير في الطرقات، تريد أن تنجو، أن تفلت بجلدها، والموتُ يواصل الركض خلفهم، يُمسك بمن يتمكّن منهم، ومن يفلت يتوعّده بأن يده ستطاولُه في المرّة المقبلة. يثير مشهد الخروج القهري والألم المسكوب على آثار الخطوات المبتورة نحو المستقبل المجهول كلها هلعاً أكبر في نفوس الواقفين على الطرقات، يلوكون فكرة الغد الذي ينتظرهم من دون أن يتمنّوا شيئاً غير أن يظلوا يفكروا فيه.
أمضيتُ الليلة في منزل أختي أسماء في منطقة الفالوجا. وضعنا الأسرّة في صالة الشقّة في الطابق الرابع، وجلسنا نستعيدُ ذكرياتٍ قديمة وقصصاً عائلية تصلح للحنين. لعبتُ قليلاً مع بنات أسماء الخمس. كانت سهرة عائلية رائقة حتى اللحظة، وحتى حين سمعنا الأخبار على الراديو قبل أن نقرّر أن الوقت قد حان من أجل أن ننام. نمنا؟ لم ننم فقد بدأت المدفعية قصفها العنيف عند التاسعة والنصف، ولم تتوقف حتى السادسة والنصف. أكثر من تسع ساعات، ظلّت الصواريخ والقذائف تسقط على محيط المخيّم من الاتجاهات الثلاثة، الغربية والشمالية والشرقية. كانت البناية تتمايل يميناً وشمالاً، وفي مرّاتٍ تشعر أنها ستسقُط عمّا قليل. عويل القذائف ولمعان خروجها من فوّهة المدافع وصفير الصواريخ الخارجة من الطائرات كلها تثير قلقاً وخوفاً لم يكن من الممكن الاستمرار في إخفائه. 
اقترحتُ أن ننتقل كلنا للمبيت في غرفة المعيشة قبالة المطبخ، حيث المكانُ بلا نوافذ خارجيّة. وعليه، فرصة أن تتساقط علينا قذيفةٌ أو شظايا أو حجارة متطايرة من قصف بنايةٍ أخرى تبدو أقلّ. البحث عن أقلّ الخطر أمرٌ لا بدّ منه في ظلّ الخطر المُحدق. وضعنا فرشاتنا على الأرض، وسحبت أسماء السرير الذي أنام عليه، وفيما نام التسعة على الأرض، تمدّدتُ فوق السرير في الحدّ الفاصل بين غرفة المعيشة والمطبخ. كنتُ مثل الحارس الذي يراقب الآخرين، خصوصا أن سريري أقرب مكانٍ إلى نافذة المطبخ في الجهة الشرقية. وبقدر ما قصَدت أسماء أن يرتاح ظهري من نومي على السرير الرفيع والضيّق بقدر ما عانيْتُ، إذ إن السرير أشعرني أنني معلّق في الهواء، وأن كل صاروخ يدفع السرير يميناً وشمالاً، وإنني سأسقُط عما قليل عنه. لم أنم لو دقيقة واحدة. كنّا نخاف أن نضيء أي شيءٍ حتى لا تنتبه إلينا الزنّانة. 
كان كل شيءٍ حولنا مرعباً، وكنّا لا نملك إلا أن ننتظر القضاء والقدر، وننتظر أن يأتي الموتُ بمخالبه، ويأخذنا في الرحلة التي لا يعود منها أحد. وكان الشيء الوحيد الذي نتمنّاه أن يطلع ضوءُ الصبح. لذا، حين رفع المؤذّن الأذان، شعرنا ببعض الراحة وتنفّسنا القليل من الصعداء، فهذا يعني أن ضوء النهار ليس بعيداً. في لحظةٍ، أخذتُ أعدّ الصواريخ التي يتم إرسالها حولنا. وصلت مرّة إلى 154 ثم توقفت، حيث تملكّني شعورٌ بأن هذا قد يستمرّ إلى الأبد، فأُصِبتُ بإحباطٍ كثير. فقط أريد لهذا كله أن ينتهي، وأريد لهذه الليلة أن تنتهي، وأريد للصبح أن يتنفّس، ولضوء النهار أن يهبنا بعض الأمل. كنّا نتبادل الكلمات همساً من شدّة الخوف، وكأن الجندي القاتل يسمعنا.

قنّاصون لا نعرف أماكنهم البعيدة، وثمّة مهووسون بالقتل، يراقبون الصور التي ترسلها الطائرات الزنّانة

ما إن طلع النهار، حتى قرّرنا أن نقوم عن الفراش، وأن الليل قد انتهى. لم تتوقّف القذائف ولا الصواريخ ولا الانفجارات. وقفنا ننظر إلى المدرسة المقابلة التي نمنا فيها الليلة الماضية، فحليمة وعائلتها يقيمون فيها. كان النازحون قد تركوا الخيام وكلّ الأماكن الأخرى التي شغلوها وتكدّسوا في الفصول المدرسية في انتظار النهار. كانت الشظايا قد تساقطت في كل مكانٍ في المدرسة وفي الشارع وفوق سطح البناية التي تسكُن فيها أسماء. وفيما استمرّ القصف، بدا الوقوف على النافذة مجازفة، إذ ثمّة قنّاصون لا نعرف أماكنهم البعيدة، وثمّة مهووسون بالقتل، يراقبون الصور التي ترسلها الطائرات الزنّانة. لذلك من الأفضل أن ندخُل وننتظر، حتى ينجلي الصبح قليلاً أكثر، ونخرُج إلى الشارع. جهّزت لنا أسماء الفلافل، فأكلنا سارحين في سؤال النجاة. الفلافل هذه الأيام حمّصٌ مطحونٌ بدون بقدونس ولا بصل، لعدم توفّرهما. ومع ذلك، يبدو لذيذا شهياً، لأنه يعني أن حياتنا مستمرّة، وأننا قادرون على البقاء. 
ذهب محمد للاطمئنان على حليمة وإسماعيل ثم عاد. بات الكلّ يفكّر بالرحيل، وصار الكلّ يبحث عن خطّة النجاة. استمرّ القصف. فيما كان رجل في الشارع يفحص عجلة السيارة التي أصابتها قذيفة صغيرة فنام بشكل نهائي عندما أغارت الطائرات على مكان قريب. غطّى الدخان والغبار كل الشارع، وواصلت الطائرات غاراتِها في كل اتّجاه. ذهبتُ يوم أمس لزيارة بعض الأصدقاء الجرحى في المستشفى الإندونيسي، والذي تتّصف عمارته بالطابع الإسلامي ويزيد بهاءها وقوعه على تلّة مرتفعة نسبياً. تصدّر المستشفى الأخبار خلال حرب الاحتلال على المستشفيات. قابلتُ أصدقاء كثيرين نزحوا إلى المستشفى بحثا عن الأمن، كما زرتُ بعض من أصيبوا خلال الحرب ويتلقون العلاج هنا، ثم صار المستشفى بيتهم الدائم إلى حين انتهاء الحرب. كان الرجل يؤم سبعة رجال وهم يصلّون على بعض الشهداء. شابٌّ يبكي فلا يقدر على مواصلة الصلاة، يُمسكه شابٌّ بجواره ويشدّه. الحزنُ والتعبُ والبؤسُ والقلق ينهشون استقرار الناس. هبطتُ إلى الشارع المفضي إلى المستشفى، وأنا أفكّر أن حياتنا أمرٌ قلق وغير ثابت، وأن المستشفى الذي بدا لكثيرين، في لحظة معينة، مكاناً آمناً ومستقرّاً معقولاً بات مكاناً خطراً وموضع تهديد وتحت الخطر الدائم. يذكّرك كل شيء في شوارع المخيم بفكرة المؤقت، ولعل التفكير في أن الحرب أيضاً مؤقتة أمر يريح قليلاً وسط كل هذه الضوضاء التي تلتهم استقرارنا، وتهدّد أرواحنا بالفناء. 
لستُ الهنديّ الأخير، ولا خطبة لألقيها، ولا أريد أن تكون سياتل مدينةً تحمل اسمي ولا اسم أحد من نسلي، فللأماكن أسماؤها، ولن تكون غير ذلك. لن أعطي الوصايا عن البلاد وجمالها، ولن أمتدح الخطو الرهيف على طريق الوصول، كما لن أرمي بتعويذات تحفظ التلال والوديان والفراشات. لا خطبة أخيرة لألقيها، فلست الأخير، ولن يصبح الجندي صاحب البلاد حتى لو أباد كل من فيها. لا أرغب في أن أقف هناك أمام أيّ حشدٍ أتلو عليهم الوصايا ولا الصلوات من أجل ذاكرةٍ لا تجفّ، وماض لا يبقى، إلا في متن استعادة الرجل الأبيض لماضيه الإجرامي تكفيراً عن ذنبٍ لا يعترف باقترافه. لست إلا أنا ولا صورة أخرى للجنرال إلا متاهاته التي هي من صنع أوهامه وأساطيره.
عند الثامنة صباحاً نمت أربع ساعات متواصلة.

قضايا وناس
التحديثات الحية
المساهمون