يناير المصريين... حلم الروح الجميلة باقٍ

25 يناير 2022
قلوب المصريين ترفرف بحب يناير (كيم بدوي/ Getty)
+ الخط -

في كل مرة يخرج الشاب المصري في الثلاثينيات من العمر حمزة هشام من مقر أمن الدولة، يعود مسرعاً إلى منزله ويحكم إغلاق كل أبواب شقته ويطفئ الأنوار، ويوقف كل وسائل الاتصال به كي ينعزل وحيداً مع الصمت والظلام. 
يعمل حمزة مهندساً في شركة لتصميم القطارات الكهربائية السريعة في مصر. يحب عمله ويحرص بشدة على تأديته بإتقان، لذا يضطر إلى البحث عن كذبة مقنعة للحصول على إجازة من العمل بعد كل زيارة يقوم بها لمقر أمن الدولة، من أجل تفادي تعريض عمله المهني لأي أذى من "علاقته مع هذا المقر".
قبل 11 عاماً، حلم حمزة بمستقبل مشرق وواعد مثل ملايين الشباب المصريين الذين خرجوا في ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011. شارك ابن الأسرة ميسورة الحال التي تقطن في أحد أرقى أحياء المدن العمرانية الجديدة شرقي العاصمة القاهرة، في الثورة وانخرط مع تفاصيلها. أعجبته تجربة المشاركة في فصيل سياسي للمرة الأولى في حياته، فانضم إلى حركة "شباب 6 إبريل"، وعاصر فترة ذروة نشاطها، ثم شهد مراحل تخبطها وصولاً إلى نقطة الصفر بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، حين انقطعت علاقته بالحركة نهائياً، ليس فقط بسبب عزوفه عن العمل السياسي بعدما انقلب الحال بالكامل في السنوات السابقة، بل لأن الحركة نفسها لم تعد موجودة بعدما علّقت عملها رسمياً. لكن ذلك لم يمنع استمرار السلطات في محاسبة حمزة على انتمائه يوماً إلى حركة سياسية حلمت بغد أفضل. 

قضايا وناس
التحديثات الحية

اعتقل حمزة في صيف عام 2013 خلال حملة أمنية كبيرة شملت محيط مسجد الفتح، وسط القاهرة، وأودع السجن مع مئات من الشباب على ذمة قضية سياسية استمرت محاكماتها نحو ثلاثة أعوام ونصف العام. ثم صدر في النهاية حكم قضى بحبسهم سنة واحدة، والخضوع لمراقبة الشرطة ثلاث سنوات بعد انتهاء المهلة.
وإثر انقضاء مدة الحبس ومراقبة الشرطة، أخبر حمزة، في آخر مثول له أمام قسم الشرطة الذي يتولى مراقبته، بأنه يجب أن يتصل دورياً بمقر الأمن الوطني قبل مزاولة أي عمل أو الزواج أو السفر أو تغيير عنوان الإقامة ورقم الهاتف، وبأنه ملزم بزيارة مقر الأمن الوطني لدى استدعائه. 

مفاجأة 
التزم حمزة بتنفيذ كل التعليمات الأمنية الموجهة إليه، لكن مفاجأة حصلت إثر استدعائه للمرة الأولى إلى مقر جهاز أمن الدولة، ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن جهاز أمن الدولة حدد في اتصال أجراه معه موعداً لحضوره إلى المقر، فوصل قبل دقائق من الموعد، وما أن تجاوز البوابة الحديدية الخارجية، حتى فوجئ بوضع غطاء أسود سميك على رأسه وتكبيل يديه إلى الخلف بأصفاد، مع توجيه تعليمات صارمة إليه بعدم التكلم، والانصياع لأوامر تسليم كل المتعلقات الشخصية التي في حوزته.
ويعلّق حمزة: "جرى تسليمي من يد إلى أخرى، ونقلت من باب إلى باب ومن مكان إلى مكان، شعرت بأن الأماكن تغيّرت فقط من خلال الأصوات المختلفة لقرقعة النعال على الأرضيات. ثم ساد صمت طويل لم أشعر خلاله بالوقت، وظلام حالك جعلني أعتقد بأنني لم أشاهد النور يوماً".
في اليوم الأول لاستدعائه إلى مقر الأمن الوطني، مثل حمزة أمام شخص مجهول سأله عن حركة "شباب 6 إبريل" وعلاقته بالثورة، وعمن تكون الشخصية التي أثرّت فيه خلالها، ومن يرى من الناشطين حالياً، وكذلك عن مشاركة أفراد في أسرته في الثورة.
وفي الاستدعاءات اللاحقة، لم يخضع حمزة لأي استجواب، وظل في غالبيتها واقفاً مكبلاً لساعات لا يعرف عددها، وحضر الشخص أو الأشخاص الغامضون الذين لا يحق له معرفة هويتهم بأي حال من الأحوال، فقط في جلسات المثول التي تتزامن مع مناسبات سياسية مثل ذكرى الثورة.

ثورة يناير حركت شعور المصريين بالوطن الحاضن (أحمد طرنح/ الأناضول)
ثورة يناير حركت شعور المصريين بالوطن الحاضن (أحمد طرنح/ الأناضول)

الصوت المؤلم
يؤكد حمزة أن أكثر ما يؤلمه هي حال التخبط الشديد في علاقته مع مصر، "ّإذ أشعر أحياناً بأن مصر مجرد صوت يُملي علي تعليمات أمنية، ويحدثني عن مفاهيم وطنية حاول خونة وعملاء في الثورة هدمها. وأحياناً أشعر أن هذا الصوت يصدر من أشخاص يحيطون بي في العمل والشارع والمقهى، وأن هناك من يراني ويسمعني دائماً".
يضيف: "أعود أحياناً من استدعاء الأمن الوطني، وأبكي حتى لو لم أخضع لاستجواب. وقد أكتفي بعزل نفسي عن العالم الخارجي أو الصمت، كما يمكن أن أصرخ. لكن يبقى السؤال الأزلي الذي يراودني: هل يمكن أن يتحول حلم صعب المنال إلى كابوس بهذا الشكل؟".

الجو الرتيب
وبالانتقال إلى حلم الشاب من محافظة الإسماعيلية أحمد عبد الغفار، فهو يخبر "العربي الجديد" بأنه "قبل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، لم تكن لدي ذرة أمل بالتغيير، إذ كان إيقاع كل شيء بطيئاً ورتيباً من خلال الوجوه والكلام والمشاعر ذاتها، وساد بالتالي حال من الجمود في كل شيء، لكن عندما اندلعت الثورة، تغيّرت شخصياً، وظهرت نسخة أجمل مني لم أكن أعرفها تشارك في التظاهرات وتهتف وتجري من شارع إلى شارع. تعمل وتحب وتحلم، وتتفاعل وتشارك". 
يضيف: "قبل أشهر من اندلاع الثورة، كنت قد جئت من الإسماعيلية إلى القاهرة، وأنا أعرف جيداً أن الحياة لن تكون رحيمة ولا ميسورة، وأنني سأواجه أضعاف الصعوبات التي يواجهها الشاب العادي من سكان القاهرة. بحثت عن عمل كصحافي أو كباحث حر بعد سنوات من مراسلة شبكات ومحطات دولية من مسقط رأسي، وأدركت صعوبة الرحلة وضيق الفرص وضعف الإمكانات، لكن انعدام الأمل بالمطلق كان الكابوس الأشمل في حياتي مثل غيري". 
ويروي عبد الغفار أنه كان يستيقظ يومياً ويتوجه إلى مكان عمله في منطقة وسط القاهرة، حيث يقضي ساعات النهار بين مجموعات الكتب والصحف وأوراق البحوث، ثم ينهي يومه بتناول حساء العدس في مطعم شعبي وسط القاهرة، متأملاً الوجوه نفسها، قبل أن يمضي الساعات الأخيرة ممدداً على سرير ضيق في غرفة صغيرة داخل شقة مشتركة مع عدد من الشباب. ثم وجد نفسه بين ليلة وضحاها واقفاً على العتبة الأولى للحلم، حين شاهد شباناً من كل الأطياف والفئات يهتفون في الشوارع، ووجوهاً تستبشر بالخير في كل مكان، فخرج معهم لشعوره بأن الثورة كتبت له روحاً جديدة، وفتحت له صفحات الحياة على مصراعيها.

لا يسمع المصريون اليوم إلا صوت التعليمات أمنية (كيم بدوي/ Getty)
لا يسمع المصريون اليوم إلا صوت التعليمات الأمنية (كيم بدوي/ Getty)

أول ذرة حب
ويقول: "كانت الثورة بالنسبة لي جولات جري من شارع إلى شارع ومن منطقة إلى منطقة. لم يسبق لي حينها أن هتفت أو شاركت في أي تظاهرة وانتخابات، ولم أتعامل يوماً مع بلدي بمبدأ المواطنة والحقوق والواجبات. ثم بدا كل شيء جميلاً في يناير، فشعرت بالوطن والاحتضان والحرية".
يضيف: "أول ذرة حب حقيقية لمصر جلبها يناير. سيظل قلبي يرفرف بحب يناير، كما شعرت برفرفته للمرة الأولى في حياتي بفضله". 
واليوم، لا يزال عبد الغفار يمارس الصحافة والبحث لكن على نطاق محدود من خلال العمل مع منظمة للمجتمع المدني المصرية تتعاون مع جامعات خاصة. 
ويقارن عبد الغفار بين وضع البحوث والصحافة في مصر خلال وقت الثورة والوقت الحالي الذي يمنع تنظيم مؤسسة تعليمية كبرى ندوة أو مؤتمرا لمناقشة قضية مجتمعية، ويقول: "تحيط التعليمات الأمنية بكل تفاصيل الأعمال البحثية والأكاديمية بدءاً من اختيار موضوع البحث ومنهجيته، مروراً بمعالجته، وصولاً إلى إعلان نتائجه وتقييمها".
وفي 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، أعلنت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وهي إحدى المنظمات الحقوقية المستقلة الرائدة في مصر منذ فترة طويلة، أنها ستنهي عملها المستمر منذ 18 عاماً في البلاد، "بسبب سلسلة تهديدات واعتداءات عنيفة واعتقالات من الأمن الوطني، وقرب انتهاء مهلة مطالبة كل المنظمات غير الحكومية بالتسجيل بموجب قانون الجمعيات، والمحددة في نهاية الجاري".

الجريمة والعقاب
التحديثات الحية

وأورد بيان لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن "قانون 2019 يفرض قيوداً صارمة على عمل منظمات ويخضعها لرقابة حكومية شديدة". ووصف نائب مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة جو ستورك إغلاق الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان بأنه "خسارة فادحة للحركة الحقوقية المصرية وشركائها الدوليين تثبت أن هدف الحكومة المصرية إسكات انتقادات المجتمع المدني المستقل".

المساهمون